بعد حادث المنصة ورث الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك، رحمه الله، تركيبة نخبة سياسية منقسمة إلى 4 مجموعات:
1- نظام قديم تقليدى متلون وهجين من نظام الاتحاد الاشتراكى الناصرى والطبقة الصاعدة فى عهد الرئيس السادات، رحمه الله، وبقايا تنظيم جماعة الإخوان المسلمين، وكان عليه أن يتعامل معهم بطريقة أو بأخرى.
2- وجود طبقة رجال أعمال صاعدة تريد مزيداً من الانفتاح الاقتصادى على أسس أفضل من قاعدة طبقة «القطط» السمان، التى ظهرت عقب حرب أكتوبر.
3- تيار إسلامى سلفى، ما بين جهادى عنفى، إلى سلفى دعوى، إلى إخوانى تنظيمى، ينتظر استكمال مرحلة التمكين فى ظل نظام قُتل رئيسه السابق بواسطة تيار جهادى سلفى.
4- شريحة شابة تنمو بشكل متصاعد ترى فى الغرب الأمريكى والليبرالية الغربية الآتية إلى الشرق أنها المستقبل.
ويمكن تقسيم فترة حكم الرئيس مبارك الثلاثين على النحو التالى:
1- العشر الأوائل من الحكم حتى حرب تحرير الكويت هى مرحلة الإمساك بمفاتيح الحكم، والسيطرة على المفاصل واستيعاب حجم المشكلات.
2- العشر الثانية، هى بدء بناء خطوات الإصلاح اعتماداً على العائد الاقتصادى لقرار مشاركة مصر فى حرب تحرير الكويت وخفض الديون والتعاون الاقتصادى.
3- مرحلة شهر العسل الأمريكى الأفضل فى عهد إدارة الرئيس بيل كلينتون الثانية بالذات، خاصة حينما تكوّن المجلس الرئاسى المصرى - الأمريكى برئاسة نائب الرئيس الأمريكى آل جور، وجمال مبارك، أمين لجنة السياسات بالحزب الحاكم.
فى تلك المرحلة التى بدت على السطح أنها شهر عسل مصرى - أمريكى حدثت 3 أمور بالغة الأهمية:
1- بدء حوار جاد بين الإدارة الأمريكية والتنظيم الدولى لجماعة الإخوان على فترات متقطعة فى «لندن»، وذلك بالمخالفة للاتفاق الذى أُعطى من قبَل البيت الأبيض لرئيس المخابرات العامة الأسبق اللواء عمر سليمان، رحمه الله، بأن يكون هناك تنسيق واطلاع مسبق بين «القاهرة» و«واشنطن» حول هذا الملف.
2- بدء نشاط جمعيات المجتمع المدنى المدعومة مالياً لدورات تدريبية فى مصر وفى الخارج على أساس منهج فكرى يقوم على «الثورة الشعبية الحديثة» التى بعد فيلسوفها وملهمها الرئيسى «جين شارب»، الذى اتخذت كتبه ودراساته فى معهد ألبرت أينشتاين قاعدة لتحريك أكثر من مائة حالة تمرد ضمن 198 حالة عالمية من خلال فكره وتوجهاته وتكنيك الثورة الشعبية والفوضى الخلاقة.
استطاع الرئيس مبارك أن يستوعب هذا الأمر كله فى أول 25 عاماً من حكمه فخلق «خلطة سياسية» خاصة به مكنته من «دفع الضرر أكثر من اقتحام المشكلات».
كان «مبارك» يرى أن جسم مصر هش ضعيف لا يتحمل هزات كبرى، وأن علاج المرض يجب أن يتم بجرعات محدودة، على فترات متباعدة، حتى يتعافى المريض ببطء بدلاً من أن يموت بسرعة بسبب عدم قبول جسمه لقوة جرعات العلاج.
باختصار لم يكن الرئيس مبارك رجل المخاطر العليا، ولكنه رجل يتجنب المخاطر، وحينما تكون الحالة هى مرحلة ضرورة المخاطرة تكون محسوبة بدقة شديدة،
لذلك رفض غزو ليبيا، أو ضرب السودان، أو التعرض الأمنى لـ«حماس».
ولذلك أيضاً تحمّل سخافات جورج دبليو بوش وباراك أوباما، وتحركات جماعة الإخوان، حتى إنه كان لديهم فى البرلمان قبل الأخير 88 نائباً.
خلطة «مبارك» السياسية هى الذهاب برفق فى كل اتجاه دون التطرف فيه حتى النهاية.
كان «مبارك» مع الرعاية الاجتماعية لكن ليس بالشكل الاشتراكى، وكان مع الموقف العروبى ولكن ليس بالمنطق الناصرى، وكان مع الاقتصاد الحر ولكن ليس بمنطق طبقة رجال الأعمال، وكان مع أهمية الخطاب الدينى الوسطى ولكن ليس بتشدد بعض الأزهريين أو تطرف جماعة الإخوان أو عنف التيار الجهادى.
بتلك الصيغة «التوفيقية» القائمة على الأخذ والرد، والشد والجذب، والقوة والمهادنة مع كافة القوى العاملة، حكم الرئيس مبارك طوال تلك الفترة الطويلة.
هذه الصيغة كانت تعتمد أساساً على قيادة منفردة لمايسترو واحد، قوى، ممسك بكل خيوط السلطة والأجهزة بيده يديرها بشكل يومى، لا يعرف التهاون أو التنازل أو الكلل.
بعد مرض الرئيس مبارك فى ظهره ثم تعرضه لورم خبيث، ثم بعدما تلقى الألم غير المحتمل لوفاة حفيده محمد علاء مبارك، ارتخت قبضته القوية عن مفاتيح الحكم، وتدريجياً، مع ضعف الجسد وافتقاد الروح المعنوية، توزعت ملفات الحكم على: الحزب، المخابرات العامة، الداخلية، رئيس الحكومة.
لم يعد الرئيس هو المسيطر، المهيمن، المايسترو لحركة القرار الأعلى فى البلاد.وكان يُنقل عن الرئيس مبارك، رحمه الله، مثل شعبى يقول: «لما الأسد يتعب، تبتدى القرود تتنطط حواليه».
شعر اليمين واليسار، الليبرالى والثورى الاشتراكى، النخبوى والقومى، السلفى والجهادى، القاعدى والإخوانى، أن يد السلطة التى كان يمثلها الرئيس تتراخى.
وجاءت آخر انتخابات برلمانية التى كانت ضربة لتجربة الرئيس مبارك وهى مخالفة تماماً لروح تعديل المادة 76 من الدستور التى كانت تهدف للانفتاح السياسى ثم تحولت لشىء آخر تماماً، جاءت الانتخابات بلا أقباط، بلا إخوان، بلا مشاركة من قوى وطنية محترمة، مما وفر قاعدة للغضب الشعبى، ساعده ارتخاء يد السلطة، ودخول مبكر ليد قوى خارجية ودخول تالٍ من الإخوان.
أزمة زمن حكم الرئيس مبارك أنه كان مضطراً فى الغالبية العظمى من الوقت لـ«إدارة الأضرار» أكثر من «إدارة الأزمة»، ومن إطفاء النار أكثر من القدرة على إعادة البناء.
أزمة النظام فى عهد «مبارك» أنه لا يتيح للحاكم خروجاً منظماً آمناً ويعطيه حصانة مسئولية القرار.
من هنا لم يعد أمام الرئيس فرصة للخروج إلا إما بالعزل أو الاغتيال أو الموت. وهى ما تحققت كلها فى عهود: ناصر «مات»، السادات «قُتل» ومبارك «عُزل». (يتبع غداً)