فى علم النفس هناك تشخيص طبى يُطلق عليه (الأم المحترقة)، وهو التعريف الذى يصف الأم القلقة على أبنائها، التى تشعر بالتقصير تجاههم، لأن إمكانياتها لا تساعدها على تحقيق كل ما يريدون أو كل المفروض والمطلوب، وعادة أو فى أغلب الأحيان والحالات تعيش هذه الأم حياة أسرية غير مستقرة وتتعرّض لضغوط نفسية وتقوم بدور الأم والأب معاً لأى أسباب أو لظروف انفصال.
وقد تناول هذه الظاهرة أو المرض كل المدارس النفسية على اختلاف توجهاتها، إلا أنها أجمعت على أن الأم المحترقة هى الترجمة الدقيقة لما يحدث من تغييرات فى التكوين الوظيفى والجسدى والكيمياء الحيوية، نتيجة للإرهاق النفسى الذى يصاحب الإحساس بالعجز وعدم القدرة على القيام بالأعمال والالتزام بالواجبات على وجه يُرضى جميع الأطراف. وقد كتب «فرودنبرج»، المحلل النفسى الأمريكى، فقال: «بصفتى محللاً نفسياً وطبيباً ممارساً أدركت أن الأشخاص فى بعض الأحيان يقعون ضحايا للحرائق، تماماً مثل المدن أو المبانى، فتحت وطأة التوترات الناتجة عن الحياة فى عالمنا المعقّد نستهلك مواردنا الداخلية بفعل النيران، تاركة فراغاً داخلياً هائلاً، حتى وإن بدا الغلاف الخارجى سليماً تماماً».
هذه الكلمات بما تحمله من معانٍ قاسية على القلوب هى حقيقة ما تعيشه وتعانى منه فلسطين، فلسطين الأم والأرض والتاريخ والبشر والأطفال والمدارس والجامعات والمبانى والدواوين والذكريات المنهوبة والدماء المهدرة والنعوش التى لا تتوقف والمقابر الجماعية والأجساد المفقودة تحت الأنقاض وصور الطفولة الباحثة عن أى أمل فى الحياة، من أجل كل كلمة من تلك الكلمات أصبحت فلسطين هى الأم المحترقة التى تمنّت أن تكون الراعية للأبناء والمهتمة بشئون الأسرة والناجحة فى العمل، ولكن الأقدار لم تمنحها هذه الفرصة للقيام بواجباتها خير قيام.
ومن هنا تكون فلسطين هى الأحق بالتعبير الإنجليزى (burnout)، أو كما يطلق عليه باليابانية (Karosh)، فتلك الأم المحترقة تصارع وحوشاً أسطورية من المفروض انقراضها واختفاؤهم تسفك دماء أطفالها وتقضى على أجيال متعاقبة وعائلات كاملة، هل تستطيع أى أم احتمال ألم عدم توفير الطعام والماء والألبان والخبز والدواء لأطفالها؟ وهل تستطيع أن تجمعهم من وسط الأمطار والأوحال والخيام الممزّقة والفراش المبتل وقلة الغطاء والملابس القذرة التى لا تقى من طقس رفض أن يكون رفيقاً بهم حتى لا يصيبهم المرض والضعف. وماذا تفعل هذه الأم عندما ترى الموسوعات التاريخية وقد أفردت صفحات وأبواباً كاملة فى أوراقها للمجازر التى ارتُكبت ضد أبنائها حتى لا ينسى التاريخ ورجاله والعسكريون ما حدث لتلك الأرض ويعرفون سبب احتراقها؟ ففى مهزلة الأمم المتحدة وجلساتها والشكاوى المقدّمة لها وطلبات عقد الجلسات الاستثنائية ورفضها واستعمال الڤيتو والانسحاب الاحتجاجى أو الامتناع عن التصويت وقمع المظاهرات المحتجة والاعتداء على طلبة الجامعات الذين يطالبون بوقف المجازر فى محاولات لمساعدة الأم المحترقة، وسط كل هذا تبقى فلسطين تتذكر مجزرة حيفا فى مارس ١٩٣٧، التى ارتكبتها فى سوق حيفا عصابتا «الإنسل وليحى» ومجزرة القدس فى ديسمبر من العام نفسه، والتى وقعت فى سوق الخضار بالقدس على أيدى أعضاء العصابتين أنفسهم، وكذلك مجزرتا عام ١٩٣٨ فى سوق حيفا ومساجد مدينة القدس ومعهما واحدة فى سوق الخضار بالقدس، لتتكرر المجازر نفسها على أيدى تلك العصابة أكثر من مرة وتعقبها مجزرة بلدة الشيخ فى عام ١٩٣٩ ومجزرة العباسية التى نفّذتها عصابة الإرجون، وتبعتها مجزرة قرية الخصاص وباب العمود والشيخ بريك ويافا والسرايا القديمة فى سلسلة لم تتوقف حتى عام ١٩٤٨، وكان الهدف من تلك العمليات الاستيلاء على الأحياء العربية فى حدث مهم ضمن المراحل الأخيرة من حرب التطهير العرقى فى فلسطين، مما أدى إلى الحرب العربية الإسرائيلية عام ١٩٤٨. وبطبيعة الحال استمرت تلك المجازر حتى وقتنا هذا.
ولم تنسَ الأم المحترقة حادثة دير أيوب عندما هاجم جنود إسرائيليون القرية وذبحوا طفلين صغيرين وتركوهما ينزفان حتى الموت عام ١٩٥٤، وصبرا وشاتيلا والمسجد الأقصى وخان يونس وكفر قاسم ومجزرة جباليا وجنين وغيرها. فهل يمكن أن نتساءل لماذا تعانى فلسطين الأم من الاحتراق النفسى؟ ولماذا ندعو كبار العالم بعلمائهم وأطبائهم النفسيين وعلماء الاجتماع لعلاجها، حتى لا تتحول إلى رماد، ووقتها لن تُجدى معها أى محاولة للاحتواء أو العلاج.