النّمط الثقافى السائد فى مجتمع ما هو ما يُحدّد الموقف من عدد كبير من الموضوعات المهمّة والمتشابكة، مثل: الهوية والفنون، وشكل التعامل مع السياحة والأجانب، والتعاطى مع البحث العلمى والإبداع، وطبيعة التوجّه نحو كل قضايا المرأة، ومدى خلط الدين بكل شىء، بدءاً من لغة الكلام، مروراً بالأزياء، وانتهاء بالمناهج التعليمية، وكلها أمور تخضع الآن عموماً للنمط الثقافى الراديكالى الذى ينتشر كالنار فى الهشيم بين جنبات المجتمع المصرى ويظهر كل فترة على شكل انتهاكات للخصوصية والحريات العامة بحجج دينية، فيما لم يتم بذل مجهودات كافية لكى يتم تقديم البديل المصرى الوسطى.
النمط الثقافى هو أسلوب حياة يتكون عبر سنوات عن طريق حِزم من القوانين واللوائح والإجراءات التى تدعم اتجاهاً ما وتجعله العادى والمنطقى والطبيعى والمستساغ.
الأمن مهم، لكنه لا يكفى وحده لمحاربة الأفكار، النمط الثقافى المسيطر علينا الآن هو نمط إخوانى مظهرى متطرف غير وسطى، وهو مفروض علينا منذ دولة «العلم والإيمان»، ولا يوجد أى تصور شامل بديل له، وهذا خطر وجودى على دول عظمى ثقافياً بحجم مصر.
ما نعانيه الآن سببه أنه ليس لدينا مشروع ثقافى واضح يمكن من خلاله مواجهة المشروع الثقافى الخاص باليمين الدينى المتشدّد الذى انتشر واستشرى دون رادع فى وقت يظن فيه البعض، من حيث الرؤية، أن الثقافة رفاهية، ومن حيث الإجراء، أنها تسيير أعمال ومكاتبات ورقية ومكاتب فخمة وملابس جميلة وتعاملات بروتوكولية. ونتج عن هذا كيانات ومؤسسات مترهلة لا تُقدّم أى ثقافة، بل قدّمت البلد كاملاً على طبق من ذهب لجماعات متطرّفة، ولولا ستر الله علينا لكنّا الآن نبحث عن دولة اسمها مصر، ومؤكد أننا لا نريد تكرار هذه التجربة الصعبة.
الوضع الحالى مُرعب للغاية، ومن المهم أن ننتبه إليه، ومرة أخرى الأمر وجودى وليس رفاهية، والأمثلة أكثر من أن تُحصى: منذ فترة، كان لدينا «تريند» على مواقع التواصل الاجتماعى. والقصة لسيدة طلبت ملابس عبر إحدى صفحات مواقع التواصل، وقد قرّر مندوب الشحن أن يتواصل معها ومع جهة عمله لمعرفة ما إذا كانت صاحبة الطلب سوف ترتدى هذه الملابس داخل المنزل أم خارجه، بحجة أنه لا يقوم بتوصيل أى شىء «غير شرعى»! وقد قامت صاحبة الواقعة بنشر الموضوع بفخر شديد، وكأنها تحكى عن أحد الأبطال، وهى، تبعاً لما تكتبه عن نفسها فى مواقع التواصل، سيدة مصرية متخصّصة فى اللغة العربية وتدريسها للأجانب، وجدير بالذكر أنها خريجة كلية دار العلوم، واحدة من الكليات الدينية فى مصر. تحول الشاب إلى ممارسة التسلط الدينى من خلال تصنيفه لما هو «شرعى» أو «غير شرعى»، ووجد سلوكه هذا آلاف الداعمين عبر مواقع التواصل الاجتماعى.
يسيطر اليمين الدينى المتطرف على جزء معتبر من المشهد الثقافى المصرى، وهذه التقنيات «المظهرية» فى التعامل مع أمور الحياة، هى أنماط إخوانية بامتياز وأنساق سلفية بجدارة، وسبب وجودها الوحيد هو غياب نمط ثقافى مصرى جديد يحل محل هذه الترسّبات التى تكوّنت عبر عقود، وبمجهودات حثيثة من قوى كبرى حاولت ضرب الوسطية المصرية.
سنوات طويلة من عمل تيارات اليمين المتطرف فى النقابات والزوايا، مع التوسّع فى التعليم الدينى، فى مقابل التضييق على قوى اليسار (حتى هذه القوى أصبح لديها الآن «مظهرية يسارية». ادعاء يسارية مضحك حتى البكاء!)، عموماً سمح ذلك للإخوان بملء الفراغ عبر تقديم أنفسهم كقوى يسار اجتماعى جاءت لإعادة توزيع الثروات وتحقيق العدالة الاجتماعية، وكان هذا هو العقد الاجتماعى الخفى الذى عُقد بين الإخوان وقطاعات من الشعب المصرى التى سرعان ما وجدت نفسها أمام جماعة تفتقر إلى الكفاءة الإدارية أو الرؤى الإبداعية، فضلاً عن غباء سياسى حقيقى فى ما يتعلق بالمحاولات الهستيرية للسيطرة على كل شىء وسط نشوة الانتصارات المتتالية عبر غزوات صناديق متتابعة، لا تدعمها أى ثقافة ولا تسبقها أى معرفة. الإخوان ملأوا فراغاً تركته الدولة، وآن أوان تحرّكنا لإعادة ما أُخذ منا قبل أن نجد من يتسلّل من الأبواب الخلفية مرة أخرى، وهذا لن يتم دون رؤية شاملة، ومرة ثالثة هذا أمر وجودى وليس رفاهية.