إن كانت القاهرة هى مدينة الألف مئذنة، فنيويورك هى مدينة الألف ناطحة.. حين تزور المكان للمرة الأولى ستمشى مرفوع الرأس، ليس بدافع الكرامة، بل بسبب الانبهار بناطحات السحاب، لكن مع تعدد الزيارات ستكون متجهاً للأرض، ليس بسبب الانكسار لكن لأن عين السائح تتحول لاحقاً إلى عين الزائر غير المندهش بالكثير.
ناطحات السحاب عالم فريد، مدن رأسية، لكن أحداً لن يحكى لك عن الجانب المظلم من القمر، فلن تجد صورة لعشرات الشاحنات التى تقف يومياً تحت برج خليفة بدبى لجمع الفضلات العضوية لعشرات الآلاف من السكان والزائرين (لا يوجد بالبرج نظام صرف صحى توفيراً للنفقات). أو أنه لا توجد ناطحة سحاب واحدة فى العالم قد ينجو سكانها يوماً واحداً دون مكيفات، وأنها تبث أطناناً من الكربون إلى الغلاف الجوى. أو أن الإقامة طويلة المدة فى ناطحة سحاب من الممكن أن يكون لها تأثيرات سلبية كبيرة على نظام القلب والمخ والأوعية الدموية والأعضاء الداخلية.
فى نيويورك، بميدان «التايمز سكوير» وحده، نحو عشرين ناطحة سحاب، مثل ناطحة مبنى «كوند ناست» الذى يرتفع لثمانية وأربعين طابقاً (نحو 250 متراً). وعليه هوائى طوله أكثر بقليل من تسعين متراً. المبنى من تصميم شخصين هما «فوكس وفاول»، وهما أيضاً من صمما «مبنى رويترز»، فى الشارع ذاته.
«كوند ناست» هى شركة نشر وإعلام، عمرها ١١٣ سنة (تنشر ٢٥ مجلة أمريكية متخصصة، وتجربتها تشبه تجربة جريدة «الأخبار» فى مصر). كان لهذا المبنى حضور مهم فى فيلمين من أشهر أفلام الخيال الأمريكية وهما «الرجل العنكبوت»، و«سلاحف النينجا». المبنى يجذب شخصيات هوليوود الخارقة، كما يستقطب سنوياً عدة ملايين من الكائنات البشرية الحقيقية التى تزوره، وهو وضع يدعو للتأمل السياحى، خصوصاً ونحن نجلس بجانب ثلث آثار العالم!
رغم كل ما سبق فمبنى «كوند ناست» مجرد قزم يحتل المركز الواحد والعشرين ضمن قائمة أطول أبراج مدينة نيويورك. فأعلى بناء هناك هو «مبنى التجارة العالمى رقم واحد»، وأنشئ بعد أحداث 11 سبتمبر، وهو سادس أطول مبنى فى العالم، ومصممه هو الأمريكى «ديفيد شايلد» مصمم برج خليفة فى دبى.
أقضى الآن فترة فى مدينة نيويورك، وأجد «دونالد ترامب» حولى فى كل مكان، «برج ترامب العالمى» (72 طابقاً) فى وسط مدينة مانهاتن وهو غير «برج ترامب» (58 طابقاً)، وكلاهما غير «مبنى ترامب» (71 طابقاً)، وهو مبنى بنك مانهاتن سابقاً. واصطدمت به سنة ١٩٤١ طائرة حربية، وأحدثت ثقباً فيه، وقيل إن هذا الحادث ألهم مرتكبى أحداث ١١ سبتمبر.
لا أفهم السبب فى عدم وجود ناطحات سحاب فى مصر، خصوصاً أننا بنينا أطول مبنى فى العالم منذ خمسة آلاف سنة (الهرم الأكبر)، فما الذى حدث لنا، وهل للأمر علاقة بارتباطنا الوثيق بالأرض؟ وهل لا نفضل ألا نتجه للسماء إلا روحياً؟ ربما.