الرحلة.. من "أبنود" إلى "الإسماعيلية"
«أجمل الأمكنة فى العالم هى تلك التى نستطيع فيها أن نكون بمعزل عن الألم والمعاناة، وقريبين من الحلم والخضرة والجو الهادئ، أو بمعنى أدق قريبين من أنفسنا ومن الناس، ساعتها نقول فقط إننا فى المكان الذى نحب، وفى نفس الوقت لن تكف الطبيعة عن الضحك فى وجهك وتتغنى شجيرات المانجو بأشعارك وقصائدك، وتتراءى أمامك وجوه الشط الحقيقية»، جملة كانت تتردد على لسان شاعر العامية الراحل عبدالرحمن الأبنودى، كما يروى الناقد شعبان يوسف حينما كان الحديث يتغير بين الشعر والحياة وينتهى بوضع فلسفة للمكان.
«أبنود».. الحلم والغناء
فى 11 أبريل 1938 كانت قرية «أبنود» على موعد مع القدر لتشهد ميلاد طفل سيملأ الدنيا ويشغل الناس بشعره العامى فى قابل الأيام، ولِد هزيلاً مريضاً والنسوة من حوله يمرجحنه ويرددن: «يا شافى يا عافى.. شيل الأذى من بطن واد فاطنة من عشية»، أبنود بالنسبة له هى المكان الدافئ الذى احتضنَ طفولته ومشاغباته وأحلام يقظته الأولى، ويقول «الخال» بنفسه فى كتابه «أيامى الحلوة»: «أنا لا أتعدى أن أكون مواطناً بسيطاً عاش فقيراً فى قرية فقيرة اسمها «أبنود» فى ظلال «فاطنة قنديل»، و«ست أبوها»، «ولأنى خرجت من القرية وكأنى عصارتها، فقد حملت تاريخها وباطنها ووجهها فى الضمير -دون قصد- وسرت فى الحياة».
قرية «أبنود» بعاداتها وتقاليدها وناسها، وأمه فاطمة قنديل التى كانت سجلاً لكل أشعار القرية وطقوسها، والجدة «ست أبوها» كانت الأم والجدة فقيرتين إلى أبعد الحدود، غنيتين بما تحملانه من أغانٍ وما تحرسانه من طقوس هى خليط من الفرعونية والقبطية والإسلامية «أعتبر نفسى محظوظاً، لأنى عشت مع هاتين المرأتين».
حاول الطفل بما لديه من حس شاعرى احتواء كل تفاصيل أبنود بذراعيه رغم قساوتها وفقرها المدقع؛ لأنها ببساطة تأريخ أيامه الخالية بفرحها وحزنها، وهدوئها وصخبها، وجدها وهزلها لكنه حين عجز عن ضم «أبنود» إلى صدره بالذراعين، عانقها بشاعريته واحتواها بقلبه، ولم يكد يحمل ملامحها وضميرها حتى امتزجت روحه الوثابة بكل ذرة من ترابها، ثم انتقل إلى مدينة قنا وتحديداً شارع «بنى على» للعيش فى كنف والده بعد طول فراق، وهناك استمع إلى أغانى السيرة الهلالية التى تأثر بها كثيراً، وفى الوقت نفسه بدأ يتبلور حلمه الأكبر، وهو أن ينذر نفسه لجمع السيرة الهلالية والتنقيب عليها حفاظاً عليها من الضياع.
يختصر «الأبنودى» طفولته الثرية فى «أيامى الحلوة»، بقوله: «الغناء كان جزءاً لا يتجزأ من إطار طفولتى، امتزج بى وامتزجت به حتى صرت صاحبه».
القاهرة.. يا لها من نداهة!
فى بداية الستينات حمل القطار الآتى من الصعيد ثلاث مواهب استثنائية: أمل دنقل، يحيى الطاهر عبدالله، والأبنودى. كان الثلاثة سمر الوجوه، ناحلين، مزاجهم نارى، وفى أعماقهم ضعف عميق تجاه الفقراء، كانت لديهم قناعة بضرورة «غزو المدينة - القاهرة» التى كانت أشبه بـ«النداهة» كما وصفها الأبنودى، فيتنقلون ما بين «بين السرايات وبولاق وغيرهما، وهنا ينقل الناقد يوسف شعبان مرة أخرى فلسفة الأبنودى، فيقول: «الأبنودى يحب الحقول والشوارع والقهاوى والأماكن المفتوحة ويكره الضجيج والصخب»، وبخلاف أصدقاء الإبداع فالقاهرة من وجهة نظر «الخال» بدت قاسية رغم فورانها بالثورة وجاذبيتها لكل صاحب كلمة فصل تشد على يد أبنائها لأخذ الثأر بعد النكسة. ومن هنا كان الأبنودى يتقاسم هذا الواجب مع أصدقائه الذين تقاسموا أيضاً فنون الإبداع بينهم: لأمل شعر الفصحى، وليحيى القصة والرواية، وللأبنودى شعر العامية.
أما عن عزوف الأبنودى عن القاهرة، فيقول شعبان: «حالته الصحية هى ما منعته من البقاء فى القاهرة، ورئته كانت تضيق بهوائها ولا تعمل بشكل جيد، حسب نصيحة الدكتور المعالج فى باريس، وبالرغم من ذلك لم ينل المرض من روحه المرحة، فكان الأبنودى مثل شخصية «إبراهيم أبوالعيون» دائم النكات والمزاح لو ما ضحكش اليوم كله يموت».
ويضيف أن النكسة كانت ملهمة له وباعثة على الكتابة والنشاط «جلست إلى فتحية أبوزعزوع وعم إبراهيم أبوالعيون وأم على وعم محمد عبدالمولى، وأنا أستمع إلى قصص الجنود الذين عادوا من سيناء مهلهلين بثياب تنكرية وأقدامهم منتفخة من المشى الطويل، وكيف كان الفلاحون يصنعون الماء بالملح لكى يضعوا أقدامهم فيها ويدقوا البصل ليدهنوا به أقدامهم لتخفيف الورم ومن هنا خرج ديوانى «وجوه على الشط».
الإسماعيلية.. حبس اختيارى أم عشق أبدى؟
إذا كان نصيب الإنسان من راحته وملازمته للمكان هو أدق دليل على حبه له وذوبانه فى ترابه، فإن الإسماعيلية كانت أوفر حظاً، حيث حظيت بآخر ثمانية وعشرين عاماً قضاها هناك فى الأرض التى حلف بسماها وبترابها. يروى شعبان يوسف بأنه كان يقضى كل يوم ساعتين على الأقل يومياً تحت الشمس التى لونته بلونه القمحى الأصيل، ويقضى بقية نهاره بين حديقة المانجو والخضرة الملحقة ببيته استشفاءً من مرضه الصدرى المزمن الذى يلازمه منذ فترة طويلة.