بالتوازى مع التطور التكنولوجى، لا بد من تطور فى النسق الأخلاقى للمجتمعات، إذ إنه من المفترض أن التكنولوجيا نقل إيجابى من حال لحال.
التكنولوجيا تقنيات، والتقنيات ليست مطلوبة فى ذاتها إنما أهميتها تكمن فى قدر ما تؤدى إليه من رفاهية للحياة الإنسانية.
وهناك حالتان تقع فيهما الكوارث الاجتماعية الناتجة عن تطور تكنولوجى بلا تطور أخلاقى فى المقابل: الأولى عندما تُطلب التكنولوجيا لمجرد أنها تقدم تقنى، وثانياً عندما تتطور التقنيات بلا توازٍ مع نسق أخلاقى اجتماعى فى الاتجاه الآخر.
الكارثة أكبر فى المجتمعات الشرقية، لماذا؟
ارتبطت المجتمعات الشرقية صاحبة الحضارات الأقدم بثقافة «المقدس»، حيث قامت تلك المجتمعات على مفهوم القيم كأساس مثلها مثل المأكل والمشرب والمأوى.
أول المفاهيم القيمية فى المجتمعات الشرقية على اختلافها هو مفهوم «الكبير»، حيث عرفنا منذ القدم كبير العائلة وكبير الأسرة وكبير القرية، المثل الدارج «اللى مالوش كبير» موجود فى أغلب المجتمعات الشرقية بأكثر من صيغة.
فى القرية القديمة بأغلب حضارات الشرق اتخذ أفراد القبيلة «الطوطم» رمزاً ثم إلهاً فيما بعد، ويقال إن الطوطم هو الجد الأكبر للقرية، أو الأب الأول.. الذى ينتسب إليه أبناء القرية وبناتها.
وفى القرية القديمة عبدوا «الطوطم» وقدسوه. وأساس القداسة كان المعتقد بأن الجد الأكبر أو الأب الأول هو الذى خلق الفضائل وأرسى مبادئ القيم الاجتماعية وأسس لمفهوم العيب، وقد توازت نظرة القداسة للطوطم مع قداسة القيم الاجتماعية كالحق والخير والجمال والعدل والانتماء فى المجتمعات الحضارية فى الشرق.
الانتماء للقرية كان محاكاة عند المصريين القدماء للمبادئ الشخصية المتصورة للجد الأكبر أو الإله أو معبود القرية الخاص، لذلك فإن سقوط القيم آفة المجتمعات فى الشرق. تعيش المجتمعات الشرقية بالقيم قبل السياسة وتستقيم تلك المجتمعات بتركيبتها السلوكية والأخلاقية قبل الممارسات السياسية.
وثمة مثال: فى يناير 2011 ترنحت القيم فتساقطت الكيانات السياسية ولم تتحقق الأحلام فى شعارات تمادى فى نشرها مَن سموا أنفسهم رموز الثورة.
سقط مفهوم «الكبير» فى الذهنية الجمعية بدعوى الحرية والطريق للديمقراطية والعصر الجديد، ومعه سقط مفهوم «الوطن» فى أذهان بعضهم بدعوى أن الانتماء علاقة تبادل منفعة، فبقدر ما تمنح الأوطان بقدر ما يكون الولاء.
لم يكن هذا صحيحاً.. والدليل حجم الخلل الذى شهده الشارع المصرى وحجم السيولة الاجتماعية وحجم المطالب الفئوية التى ضربت المجتمع، وكأن الجميع قد اكتشف فجأة أن لديه قصاصاً لا بد منه مع كل قيمة وكل معيار وكل كبير.
لاحظ وقتها سيادة التكنولوجيا.. واتساع نطاق تقنيات إلكترونية حركت الناس والشارع والمظاهرات والاعتصامات.. فتنامت معها النزعات الفردية والمصالح الشخصية وتنامت معها أيضاً موجات النزوح للفوضى ورغبات التجارة بأى شىء حتى بالوطن والأرض.. مقابل انخفاض كان ملحوظاً فى معايير العيب.. فيما توارت بشكل شبه كامل أى معانٍ للانتماء لدى كثيرين.