لعلها الاستقالة الأشهر التى هزت الضمائر وأدمت القلوب، وحولت ثانى أيام العيد إلى «مأتم» فى كل بيت، صحيح أن الكل مرعوب من جائحة كورونا «كوفيد 19 المستجد»، وأن مصطلح «التعايش» الذى يفرض نفسه على العالم أجمع يقلق المصريين على وجه الخصوص، وصحيح أن الموت بكورونا يفرض «المساواة» على الجميع دون تفرقة على أساس العمر أو الدين أو الجنسية.. لكننا لا نزال فى حالة الغيبوبة التى تجعل البعض يخرق حظر التجول والبعض الآخر لا يلتزم بالإجراءات الاحترازية.. ربما لأن رائحة الموت لم تزكم أنوفنا بعد، وخطواتنا لم تحملنا إلى أحد مستشفيات الحميات لنرى التزاحم عليه أو نعانى عدم توافر سرير لمريض من دمنا.. فهل كان لا بد أن ندخل دائرة الموت لنغير من سلوكياتنا؟.. هل كان لا بد من صدمة كهربائية لنفيق من غفلتنا؟.
وجاءت الصدمة فى سطور الاستقالة التى تقدم بها الدكتور «محمود طارق»، طبيب مقيم نساء وتوليد بمستشفى المنيرة العام، إلى مدير المستشفى بعد الإهمال الذى وقع فى حق الدكتور «وليد يحيى»، الذى توفى متأثراً بإصابته بفيروس كورونا. الاستقالة تضمنت اتهامات لوزارة الصحة بالتقاعس والإهمال فى حماية الفرق الطبية «الجيش الأبيض»، وعلى الفور -وكما هى العادة- بدأت حروب التشهير بالطبيب المستقيل، ودارت ماكينة «اللجان الإلكترونية» بعضها يشنع على نقابه الأطباء والآخر يعتبر أن الاستقالات «مؤامرة»، وعلى الجانب الآخر أطباء ينشرون شكاواهم وعدم توافر مستلزمات الوقاية من الفيروس، إلى جانب عدم توافر تحليل الـPCR وخروجهم لقضاء الإجازات مع أسرهم دون ضمانة بأنهم لا يحملون الفيروس اللعين، مع عدم توافر أماكن لائقة للعزل.. وبين الفرق المتناحرة تفرقت دماء الطبيب الشهيد «وليد يحيى»!!.
هل كان يعلم الدكتور «وليد» أن استشهاده على خط مواجهة كورونا، وتركه لطفل رضيع وشبابه «عمره 32 عاماً» لن يضيعوا هدراً؟.. هل كان يعلم الطبيب المستقيل «محمود طارق» أن ما سطره فى الاستقاله كانت بمثابة «استغاثة» وصلت للقيادة السياسية ليتابع الرئيس «عبدالفتاح السيسى» بنفسه التحقيقات فى وفاة زميله ويأمر الجهات التنفيذية باتخاذ كل ما يلزم لحماية أبطالنا من «الجيش الأبيض»؟.
ربما لم يتوقع أحد أن كل جوانب التقصير كانت تنتظر «توجيهات السيد الرئيس»، فجاء بيان الدكتور «هالة زايد»، وزيرة الصحة، مساء الاثنين الماضى، لتؤكد على متابعة توفير أقصى سبل الرعاية للأطقم الطبية طبقاً لتوجيهات القيادة السياسية.. وأكدت الوزيرة توفير دور بكل مستشفى عزل بسعة 20 سريراً للمصابين من الأطقم الطبية.. كما أكدت توفير مخزون كافٍ من المستلزمات الوقائية بالمستشفيات.. وصرحت الوزيرة بأنه تم إجراء 19 ألف تحليل للأطقم الطبية وإجراء 19 ألفاً و578 تحليلاً بالكاشف السريع، و8913 PCR، حتى الآن. وأشارت الوزيرة إلى أنه يتم إجراء تحليل لكافة الأطقم عند دخولهم المستشفى لقيامهم بمهام عملهم، وأيضاً عند خروجهم من المستشفى بعد انتهاء عملهم بواقع 14 يوم عمل، و14 يوم إجازة.. وهنا لا بد أن نوضح أن الطبيب حين يغادر مستشفى العزل إما ينعزل عن أسرته لمدة أسبوعين إن كان يمتلك مكاناً للإقامة أو يعود لمنزله فيعرض الأسرة بأكملها للخطر!.
ومع تزايد أعداد المرضى يجب أن نعلم جميعاً أن هناك شروطاً للعزل بالفعل لا تتوافر للطبيب (غرفة خاصة - حمام خاص - تطهير).. بالإضافة إلى عدم توافر الواقيات الشخصية المناسبة لأفراد الأسرة المخالطين للمريض.. وعدم تدريبهم على استخدامها.. وبالتالى لا بد من توفير ما يلزم لحماية الطبيب خلال إجازته وحماية المخالطين له.. فلماذا لا نفكر فى توفير إحدى المدن الجامعية أو نزل الشباب لمن يرغب منهم فى الابتعاد عن أسرته خلال الإجازة خوفاً على الأطفال أو كبار السن؟.
ولأول مرة تعلن وزارة الصحة أعداد المصابين من الأطقم الطبية، الذين بلغ عددهم 291 مصاباً و11 وفاة من الأطقم الطبية العاملة بمستشفيات الحميات والصدر والعزل.. هذه الأرقام تحولت إلى «لوحة شرف» على مواقع التواصل الاجتماعى.
بينما تحول حسم الرئيس للموقف برمته إلى عملية شحن نفسى للأطباء الذين بدأ معظمهم يعانى من تدهور روحه المعنوية، ما يؤثر قطعاً على تفانيه فى مواجهة فيروس شرس يحتاج إلى ذهن صاف وجهاز مناعة قوى.
ونحن مقبلون على مرحلة «التعايش مع كورونا» لا بد أن نضمن صلابة المنظومة الصحية، وللمرة العاشرة سأقول إن «الطبيب أهم من جهاز التنفس الصناعى»، وإن الكوادر الطبية المؤهلة هى وقود حربنا ضد كورونا.. وإن حماية «الجيش الأبيض» ليست رفاهية ولا تكريماً بل إنها حماية لحياة 100 مليون مواطن نجاتهم معلقة فى رقاب الأطباء.
ومهما كلفنا الأمر.. هؤلاء هم جنود المرحلة، فلا بد من توفير كميات كبيرة من كواشف تحليل PCR، الذى ينص عليه بروتوكول منظمة الصحة للتشخيص، (حيث يتم عمل تحليلين متتاليين PCR، بدلاً من الكلام غير العلمى بالاعتماد على الكاشف السريع «الأجسام المضادة»)، حتى لا نصبح مهددين بالمزيد من نشر العدوى وسط المجتمع عموماً ووسط الفرق الطبية خصوصاً.. ولا بد من تحديد آليات «العزل المنزلى» للحالات البسيطة وتوعية الناس بها وتسهيل مهمة الاتصال بالقائمين عليها لتخفيف العبء عن «الجيش الأبيض».
رحم الله الدكتور «وليد يحيى» الذى دفع حياته ثمناً لوقاية زملائه من نفس المصير.