عندما كنت أعمل بالخارج، استوقفتنى برقية تشير إلى معارضة الدكتور كمال الجنزورى، عندما كان وزيراً للتخطيط، على ما أذكر، معارضة شرسة، لتعليمات صندوق النقد الدولى والبنك الدولى، بصدد السياسة الاقتصادية لمصر.. ولفت نظرى إصرار المؤسستين الدوليتين، على تنفيذ برنامج «الخصخصة» وهى الشفرة المبتكرة، لتصفية القطاع العام وما يتبع ذلك من إطلاق أيدى القائمين الجدد على اقتصاد البلاد فى فرض أعباء ثقيلة على المواطن البسيط، لا قِبَل له بها.. وقد وجدت بعضا من تفاصيل المواجهة، التى وردت فى البرقية، بين الجنزورى والصندوق والبنك الدوليين، فى مذكراته، التى صدرت فى كتابين، الأول بعنوان «طريقى» والثانى «مصر والتنمية» وفيهما يتذكر الرجل مسيرته من القرية إلى رئاسة الحكومة. والأمر الأكيد أنها رحلة مليئة بالتجارب والعِبَر والدروس، سواء كنت تتفق معه، أو لا، فى الرؤية أو المنهج الاقتصادى الملائم أو المتاح لمصر فى ظل المتغيرات العالمية، وهيمنة الرأسمالية، التى وصفها الرئيس الفرنسى الراحل فرانسوا ميتران، بالرأسمالية المتوحشة، على مقدرات الشعوب. فمثلاً، تصدى الجنزورى لما كان البنك والصندوق، يسعيان إلى إقراره فى مصر، من إطلاق حرية الأسعار، بغض النظر عن تداعياتها على الأغلبية الساحقة من الشعب، رفض الجنزورى هذا المطلب وقاومه بضراوة، فانتهى الأمر إلى التسليم بمطلبه.. ومن يقرأ المذكرات، يلمس إلى أى مدى كان الانصياع إلى ما تريده المؤسستان، كفيلاً بإضرام النيران فى الوطن، حيث كان من نتيجته، إضافة إلى رفع أسعار مكونات البترول (بنزين، سولار، مازوت، كيروسين، بوتاجاز) وبالتالى أسعار الكهرباء، فرض بعض الضرائب الجديدة لخفض عجز الموازنة، أو خفض رسوم الجمارك وخفض ضريبة الدخل بحجة تنشيط التجارة الدولية والاستثمار، مع الإسراع فى خطوات الخصخصة لا سيما فيما يتعلق ببيع البنوك العامة» (ص 114 من كتاب «طريقى») أيضاً تطرق الكتاب إلى كارثة تجريف مساحات شاسعة من الأراضى الزراعية.. واللافت للانتباه، أنه، لا صندوق النقد ولا البنك الدولى، أتى على ذكر المواطن، سواء كان من شريحة الفقراء أو حتى من الطبقة المتوسطة، حيث ظلت الأجور مسلسلة بقيود رغبة رجال الأعمال فى تحقيق أعلى هامش ربح متاح وممكن، دونما ضابط أو رابط، بينما أطلقوا العنان لأسعار جميع السلع، فعانى البسطاء من لهيبها. وأعتقد أن الخلل الذى أصابنا، جراء إملاءات البنك والصندوق، هو العامل الرئيسى فى التغيرات السلبية، التى طرأت على الشخصية المصرية فى العقود الأخيرة.. إذ يقول المثل: إذا أردت أن تُطاع.. فأمر بما هو مُستطاع.. فلا تطلب منى ألا أبيع صوتى بكرتونة زيت وسكر، وأنا لا أملك شراء كيلو زيت أو سكر، ولا تُلوّح لى بالجنة فى الآخرة، وتتركنى جائعاً، مريضاً ومهاناً فى دنياك التى لا تترك فيها سبيلاً للمتع إلا وسلكته وأنت تطلّ علينا من علياء قمة جبل الثروة التى حققتها من امتصاص دمائنا.. فحتى الدول التى وضعت سياسات البنك والصندوق، لم تعفِ الدولة من التزاماتها الواجبة تجاه الشعب.. وهو بالمناسبة ما تضمنه الدستور الجديد، حمداً لله.. المهم أن مشوار د.الجنزورى، الذى تقلد عدة مناصب، حتى وصل إلى رئاسة الحكومة جدير بالتأمل لتحقيق الفائدة، والوقوف على تجربته فى كيفية الدفاع بصلابة وإصرار عما يؤمن به، وعمّن يدافع عن حقوقهم.. وقد تكون لحظات فارقة فى حياة الجنزورى عندما التقى بجمال عبدالناصر، ولدى سماعه كلمات الدكتور سيد جاب الله وزير التخطيط، عام 1968، بعد لقاء مع الزعيم، فقد كان يردد: معه حق، معه حق، وعاود الجنزورى السؤال مستفسراً عما جرى، فأوضح جاب الله، أن عبدالناصر، وفى ظروف حرب الاستنزاف طلب الاطمئنان إلى أن الخطة تتضمن توفير الحاجات الأساسية للمواطن، معتبراً أن الخطة التى لا تأخذ فى اعتبارها توفير المتطلبات الأساسية للشعب، تغفل مهامها الرئيسية!!!!. تجربة أسهمت بالتأكيد فى قرار الجنزورى بعدم الاستسلام لأى جهة، اللهم إلا مصلحة الشعب، فى حدود المتاح والممكن، فى عصر السداح مداح، أقصد عصر الانفتاح.