«حمادة».. الابن «البكرى» على 7 بنات
قبل أن نصل إلى منزله بعدة كيلومترات، ونحن على طريق بلبيس الصحراوى، ظن الحاج عيد عبدالرحمن أن وصولنا إليه فى قريته عرب العيايدة أمراً صعباً، فالطرق الترابية أغلبها ملتوٍ، وبها تفريعات كثيرة تجر زائرها إلى مناطق مختلفة، لكنه لم يكن يعرف أن اسم ابنه الشهيد حمادة أصبح من علامات المكان.
فبمجرد أن سألنا سائقى سيارات النصف نقل والميكروباص عن القرية، بادروا بإجابة واحدة: «تقصدوا بلد الشهيد حمادة؟»، لم ينسَ أحد أبطال رفح، بل جعلوا من منزله مقصدا تعرف من خلاله قريته البسيطة.
وأمام بيته البسيط استقبلنا الحاج عيد، لم يكتب اسمه على بوابته كغيره من جيرانه، بل اكتفى بلافتة لمحل صغير ملاصق للمنزل كتب عليها «سنترال الشهيد حمادة عيد» كعلامة مميزة للمكان، وقال: «كان حلم ابنى إنه يبقى عنده سنترال يصرف منه لما يخلص الجيش، بس ملحقش يحقق حلمه»، فالقدر جعل كلمة الشهيد تسبق اسم «حمادة» على مشروعه الذى كان ينوى إقامته بعد العيد مباشرة.[FirstQuote]
حبس الأب المكلوم أنفاسه عندما راح يتذكر رنة التليفون التى تمنى لو لم يسمعها، عندما أخبره مسئول فى الجيش باستشهاد نجله، الصدمة التى لم يفقْ منها إلا وهو يحمل «حمادة» إلى القبر. مواقف ولده وتفاصيلها فى كل ركن من أركان المنزل، جلس على الأرض يتذكرها فى غرفة خالية من الأثاث إلا من مكتبة بها عدد من المصاحف وأجزاء القرآن منفصلة، ينقصها جزء واحد كان قد سافر به «حمادة» كما تعود فى كل إجازة حاملاً إياه ليؤم زملاءه فى الصلاة؛ «ابنى كان صوته حلو ودائماً صلاته فى الجامع وعشان كده صحابه جعلوه إمامهم فى كل صلاة»، لم ينسَ الأب أنه رأى مصحف ابنه فى إحدى الصور التى تناقلتها الصحف عن الحادث ملطخاً بالدماء، ويشرد «عيد» بذهنه لثوان وكأنه استعاد المشهد أمام ناظريه يتلعثم لسانه وهو يخفى دموعه ليترك المجال لوالدة الشهيد تتحدث.
وقبل أن تبدأ الحاجة أمينة والدة «حمادة» فى الكلام، سبقتها دموعها وانهمرت فى بكاء حاولت إخفاءه خلف خمارها الأسود ولكن دون جدوى، ولعل تأثرها الشديد كان أحد أسباب عدم ترك صور ابنها فى جنبات المنزل، حيث جمعها الأب بعيدا عن أعين زوجته لعلها تتوقف عن النحيب كلما رأتها، استبدلوا بصورته شهادة تم تعليقها على أحد الجدران تهنئة بحصوله على درجة فدائى من مدرسة الصاعقة.
وهى تحكى مأساتها فى أول فرحتها، ابنها البكرى على 7 أخوات، تقول الأم: «كان نفسى يخلص جيش عشان يتجوز، كان خاطب لكن محصلش نصيب وفسخ خطبته، كان قلبه حاسس إن بنات الأرض مش ليه، ربنا كتب له الحور العين فى الجنة»، ودون أن تتوقف عن البكاء تتساءل وهى غاضبة: «فين حق الشهداء؟ ابنى اتاخد غدر لحساب مين؟ هما مش عارفين يعنى إيه القصاص بيبرد قلب أم محروقة على ابنها؟ بتوع الكرة خدوا حقهم، وبتوع الثورة الناس دائما بتجيب سيرتهم، فين شهداء رفح؟ فين حق الشهيد اللى راح وهو بيدافع عن البلد وهو أعزل بدون ذخيرة على الحدود؟»، لم تتمالك الحاجة أمينة نفسها وانهارت باكية وتركت المكان مكتفية بما قالته فى انتظار إجابة عن سؤالها.
ما زال للشهيد «حمادة» بصماته فى منزله، بين غرفتى نومه والصالون تراه أسرته بين الحين والآخر، يتذكر والده عندما ذهب للحج أنه رآه يطوف بجوارهم مرتدياً زياً أخضر، كما أيقظه يوماً ليصلى الفجر فى المسجد الذى اعتاد حمادة أن يصلى فيه جميع الفروض كلما جاء من إجازة الجيش، هكذا حال الشهداء {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، لدرجة جعلت الحاج «عيد» يروى يومياته مع ابنه الشهيد قائلا: «ابنى لسه موجود، بشوفه فى كل مكان، فى شقته اللى بنيتها له ليتزوج فيها، فى كوشة فرح أخوه الأصغر المتزوج حديثاً، حتى أغمى علىّ أكتر من مرة فى ذلك اليوم، فى الغيط اللى كان بيساعدنى فيه بشوفه ماسك فاسه وبيشتغل، وجملته الأخيرة لسه بترن فى ودانى وهو بيقول: يا ابا إحنا ماضيين على شهادة وفاتنا لأننا على الحدود والذخيرة معانا كلها فشنك».
غابت الأم عن الغرفة، فجاء الأب بصور ولده التى أخفاها بعيداً عن دموع زوجته المستمرة، أمسك بمجموعة صور بعضها مع إخوته الصغار فى المنزل وأخرى بملابسه العسكرية وجدها والد شهيد آخر على هاتف ابنه، فأهدى الصور إلى الحاج «عيد»، «شهيد بيصور شهيد»! يتمتم الأب دامعاً: «حسبى الله ونعم الوكيل! اللى قتل الشباب دول مش بنى أدمين، مش قادر أنسى كلام زميلهم اللى لسه بيتعالج إن القتلة قالوا لهم: اتشاهد على نفسك يا مصرى انت وهو، الكلمة لوحدها بتوجع هما ولادنا فراخ؟!».
الأب البسيط لا يمتلك سوى ربط الأحداث ببعضها باحثاً عن قتلة ولده، ويتساءل: «لمصلحة مين توقفت العملية نسر؟ هل تدخل رئيس الجمهورية لوقفها، نسى دم الشهيد الذى لم يحضر جنازته، أم إنه لم يسمع صرخاتنا لأنه دعانا على الإفطار ولم يحضر؟ وقتها اكتفينا بكلمة الفريق السيسى وهو يعدنا بالقبض على المجرمين خلال أيام، وبردت قلوبنا لما قال دول مش ولادكم دول ولادنا ومش هنسيب حقهم، وهل القصاص لـ16 شهيد يحتاج كل الفترة دى؟! محمد مرسى ساكت ليه؟ دم ولادنا فى رقبته، وإن لم يفعل سنلجأ للمحاكم العسكرية ببلاغات رسمية يساعدنا فيها بعض القيادات الباحثين عن حق الشهداء».
أخبار متعلقة:
263 يوماً.. و«لسه حقهم مارجعش»
الساعات الأخيرة لـ 16 شهيداً.. «حان وقت دخول الجنة»
«وليد».. «البهجة» التى غادرت قلب أسرته
«إبراهيم».. «سند» العائلة الذى انكسر
«بغدادى».. فى انتظار القصاص
«حمدى».. «الموت» سبق «الكوشة»
«محمد».. شهيد 21 رصاصة