ذُبحت غزة وسال فيها الدم أنهاراً.. قُتل الآباء والأبناء والأمهات والبنات.. مات الأطفال جوعى وعطشى.. غموسهم وسقياهم دمهم.. أُبيدت أحياء بكاملها وهُدمت على من فيها.. مُحيت أسر بأكملها من على وجه البسيطة.. اختفت ألقاب عائلات هى أقدم من التاريخ نفسه حين سكن أجدادهم الأرض قبل أن تُخترع السجلات أو تُكتب الكتب.. أجبر الرجال على خلع ملابسهم، وكان التعذيب نصيبهم.. اعتُقل الشباب والفتيات دون أسباب.
مات مائة ثم ألف ثم عشرة آلاف ثم عشرون وصرنا عند ستة وعشرين، وأصيب ما يفوق ثلاثة أمثال العدد، وكأننا أمام مائة ألف ضحية من لحم ودم.. نراهم ونعايش جريمة قتلهم كل وقت وحين حتى ألفنا ذلك وتعودنا عليه، وهو أسوأ ما فينا.. جلسنا أمام الشاشات نأكل ونشرب ونتسامر دون أن يؤثر فينا كل هذا العنف.. أذكر أننى عُدت منذ سنوات لأتناول طعامى أمام تلفاز ينقل بثاً مباشراً من غزة تحت القصف الإسرائيلى، ليفاجئنى فلسطينى مطل على الشاشة: «لعل إخواننا العرب والمسلمين فى لهو ينعمون بطعامهم وشرابهم وهم يرون إعمال القتل والذبح فينا.. ألا ينتخون.. ألا يتحركون لنجدة إخوة الدم والدين..»، انتفضت ولم أذق الطعام عدة أيام.. غُصة العجز تغتصب حلق المرء وهو لا يملك سوى الحسرة.
مشاهد غزة لا تمر أمامى حتى تذكّرنى بمشاهد مماثلة عايشتها زمن الاحتلال لموطنى ومدينتى فى سيناء.. مشهد مشابه لاعتقال الرجال فى غزة، جمع جيش الاحتلال شباب ورجال مدينتى فى ساحة بيت المحافظ عند سد وادى العريش وأحاط بهم الجند مشهرين أسلحتهم نحو رؤوسهم.. طال الانتظار واستبد بنا القلق.. مؤكد جاع أبى فحمّلتنى أمى طبق زيتون ورغيف خبز، ولعله آخر ما تبقى فى الدار من طعام.. لم يكن مكان الاحتجاز بعيداً.. رأيت أبى بملابس البيت «نفس بيجامة الكستور التى عاد بها الأسرى الإسرائيليون عقب نصر أكتوبر» يجلس القرفصاء وقد غلبه الإرهاق وفاض به التعب.. حاولت توصيل الطعام فكان نصيبى ركلة قدم من جندى أطاحت بى وبالطعام أرضاً.. لم أتمكن من تجاوز المشهد ولا الركلة ولا الأب المحتجَز الجائع، ليتعمّق الجرح بمشهد أهلنا من رجال غزة المحتجزين دون ثياب.
مرّت السنوات لأصادف بقوات الاحتلال تنسف بالديناميت منزل أحد المجاهدين بحجة تجسّسه لحساب المصريين.. رأيت المشهد بكل تفاصيله وما تعرّض له أهل الدار من ضرب وسحل.. ذرفت الدمع معهم، ثم عاودت البكاء مع كل مشهد قصف يقع فى غزة.. مع كل أب وأم ثكلى.. مع نحيب النازحين تحت القصف العمد، وأشلاء تملأ الطرقات، وجثث متحللة لم يتمكن أحد من إكرامهم بدفنهم.
فى ليلة شتوية دكت طرقات عنيفة باب بيتنا فى تلك المدينة العتيقة، وقبل أن يتحرّك أحد لفتح الباب دمرته أقدام جنود المحتلين.. قبل أن ألتفت كادت فوهة بندقية أحدهم تقتلع عينى.. بكينا جميعاً.. كان المشهد مروعاً.. «وين مخربين»، هكذا صاح أحدهم فيما امتلأت الدار بضباط وجنود لا قِبل لنا بهم ولا بسلاحهم ونحن العزل.. صرخت أمى فى وجه كبيرهم: «اغرب عن وجهنا.. شؤم ولا يصحبكم سوى الموت والمرض الذى اختطف ثلاث بنات لى».. أمرهم ضابطهم «درزى عربى» بالمغادرة تاركاً الخوف والهلع لكل من فى الدار.. هو مشهد لا يُقارَن بما يفعلونه وهم ينفّذون إبادة جماعية فى حق غزة وأهلها، لكنها ذكريات لا يمحوها الزمن.. كتبت بالأحاسيس والدم المهدر والموت المحلق فى الآفاق.
لسنا وحدنا، عرب ومسلمون وعجم.. الكل شارك بشكل مختلف.. هناك من أمد بالسلاح وكان شريكاً فى أضخم عملية إبادة مثل الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية.. وآخرون شاهدوا فى صمت «كالشيطان الأخرس».. وقليل من تحرك فى الهيئات الدولية «جنوب أفريقيا» ورفاقها فى محاولة لوقف المذبحة التى لا تزال عرضاً مستمراً على كل الشاشات وسط صيحات الاستغاثة ولا مجيب.
سقطت كل الأقنعة وأدركنا أن لغة العنف تسود وتحكم وتتحكم وتفرض إرادة المعتدى الذى لا يكتفى بالقتل، بل ويمنع وصول الأدوية والغذاء والماء، فى حالة إجرام غير مسبوقة فى التاريخ الإنسانى بطلتها دولة إسرائيل «واحة الدم والوحشية» فى العالم أجمع.