لا يتوقف المجتمع الأمريكى عن صناعة الجديد فى كل شىء حتى فى الثقافة التى تؤثر بدورها على كل الثقافات فى بلاد العالم على اختلاف تاريخها المتنوع وحضاراتها العريقة، وهو ما نتقبله جميعاً بشكل طوعى ودون إكراه كونها أكثر الأمم تقدماً فى عصرنا الحديث رغم إقرارنا بوحشيتها وجرأتها فى انتهاك كل ما تعارف عليه المجتمع الدولى من قوانين هى خلاصة الحضارة الإنسانية منذ خلق البشر على وجه الأرض.
منذ ما يزيد على عقد من الزمان ظهرت فى الأوساط الأمريكية «ثقافة الإلغاء»، وهى أحد أشكال العنصرية الفكرية وأبرز مظاهر «رفض الآخر» ونبذه من الدوائر التى يعيش فيها نتيجة الاختلاف فى الرأى وعدم قابلية من يختلف فى الفكر والطرح وطريقة التفكير.
تطور الأمر من مجرد الرفض والملاحقة والنبذ لأشخاص بعينهم إلى محاولة محو شعوب وأمم بأكملها، وهو ما يكشف أن المسألة قديمة ومتأصلة فى عمق الوعى الأمريكى، وتقف وراء كل الجرائم التى ارتكبتها الولايات المتحدة بذرائع مختلفة.
يقودنا البحث فى أصل «ثقافة الإلغاء» إلى اليهودية وكتابها التوراة وما ورد بها من أمر الله بالقضاء على قبيلة «عماليق» والحث على «محو ذكراهم من تحت السماء»، وهو بالضبط ما ينفذه جيش الكيان الصهيونى ضد الفلسطينيين منذ شنت إسرائيل حربها لإبادة غزة ومن فيها.
سفر التثنية، بحسب العديد من الدراسات، يحتوى على وصايا متعلقة بالعدو للحض على إنهاء وجوده وعدم نسيان ما فعله مع إحدى دول بنى إسرائيل، ولم يتقبل مفهوم «الرفق» بالأطفال والنساء والحيوانات من قبل النبى «شاؤول» فى كتاب مقدس المفترض أنه جاء ليحافظ على الإنسانية.
لم يسلم أى مجتمع عاش فيه اليهود من «ثقافة الإلغاء» على صورة نبذ أو طرد والموت إن أمكن، ما يؤكد أننا أمام تراث دينى أصيل نشأ عندهم وانتقل عبر السنوات ليصبح ممارسة شبه يومية للعديد من القوى فى عالمنا المعاصر، وعلى رأسه الولايات المتحدة التى تمثل الداعم الأول للكيان الصهيونى، وهو يمارس نفس السلوك فى محاولة لإنهاء الوجود الفلسطينى ومحوه من الخارطة والتاريخ الإنسانى، ولا يتورع عن استخدام كل الوسائل فى سبيل تحقيق هذا الهدف.
صراع السيطرة والاستيلاء على الأرض والهوية والتراث مستمر طوال العقود الثمانية الماضية، والشواهد المتواترة تؤكد أنهم لا يكتفون بالاستيلاء على كل ما هو فلسطينى «الأرض والتراث والتاريخ»، بل يتطور الأمر إلى التهجير القسرى والقتل والإبادة.
العرب دون وعى يواصلون ممارسة الإلغاء فيما بينهم، ولا يعون ما تفعله إسرائيل والولايات المتحدة فى تحالفهما من محاولات الإلغاء لكل ما هو فلسطينى وعربى بالتبعية لأنهم لا يستطيعون تحقيق الجزء دون الكل، ما يؤكد أن ما يحدث فى قطاع غزة ما هو إلا البداية التى تتبعها معركة تستهدف الجميع فى مرحلة واحدة، وإن كان الأمر المرجح أن تتعدد مراحله وصولاً إلى الإلغاء الكامل.
يظن بعض الأمريكيين أن «ثقافة الإلغاء» نوع من التحرر، وأنها ستمنحهم السيطرة الكاملة على العالم فيمارسونها فى أنحاء متفرقة من العالم بشكل مباشر أو بالشراكة مع الأوروبيين أو إسرائيل دون أن يحسبوا حساب ردة الفعل الوارد أن تكون بداية النهاية لـ«إمبراطورية إلغاء الآخر» التى يتخيلون أن تدين لها السيادة فى النهاية.
لن تهزم أمريكا كل شعوب الأرض، ولن تحقق حلمها، وليس هناك من المؤشرات ما يجعل ذلك احتمالاً قائماً، وليس أدل على ذلك مما تواجهه هى وصنيعتها إسرائيل التى ستخرج دون انتصار من مواجهات غزة رغم الفارق الكبير فى الإمكانات العسكرية.
التاريخ لا يكذب، ولا يمكن لأمة أن تلغى أخرى، وإن أمعنت القتل فيها، ولعل العكس صحيح تماماً، فالمقاوم عمره أطول بكثير من عمر شانقه، والإلغاء غالباً سيكون من نصيبهم.