«سليمان»: «استنزاف» و«عبور».. وبعد الستين: «ديون تثقل كاهله»
«سليمان»: «استنزاف» و«عبور».. وبعد الستين: «ديون تثقل كاهله»
«سليمان» يروى ذكرياته عن حرب التحرير
يعود بذاكرته لأكثر من 45 عاماً للوراء، ليلة التحاقه بالخدمة العسكرية فى الثانى من يونيو 1969، بعد عامين من هزيمة أوجعته كما أوجعت ملايين المصريين، وقبل أعوام معدودات من نصر عظيم كان متيقناً من قدومه، ارتدى الزى العسكرى تملؤه الحماسة والإصرار فى انتظار صافرة بدء المعركة التى لم يكن يشغل باله شىء سواها، «من أول ما دخلت الجيش ماكنش فيه سؤال على لسانى، أنا وباقى زملائى فى الكتيبة، إلا سؤال: إحنا هنحارب إمتى؟ كنا مستنيين المعركة بفارغ الصبر، وبنحلم بيها، ومتأكدين إن النصر قادم».
يتذكر «سليمان أحمد سليمان» يومه الأول بـ«البيادة والكاب والبدلة الكاكى»، مشاعر عديدة سيطرت عليه، لم يكن ليشعر بها قبل هذا اليوم: «أنا فاكر اليوم الأول كويس جداً، أكتر حاجة فاكرها فى حياتى لحد دلوقتى هى 2 يونيو 69، لقيت جنود جوه الجيش من سنة 64، يعنى بقالهم 5 سنين، وماحدش فيهم بيفكر فى الخروج، مستنيين الحرب، السؤال: إحنا هنحارب إمتى؟ مش إحنا هنخرج إمتى؟ الإصرار والتفاؤل وفكرة الثأر كانت صفات مشتركة بين الجميع، وكان الهم مشتركاً بين العسكرى المجند والضابط الرتبة، كلنا بنفكر فى شىء، وعندنا مشاعر واحدة مسيطرة علينا، وده سر النصر اللى حصل فى 73»، التحق «سليمان»، بإحدى فرق الصاعقة ليشهد على مدار 4 أعوام تدريبات قاسية، ويخوض اختبارات صعبة، لكن «المعركة المنتظرة» كانت محفزاً لهم على التحمل والصبر: «شفنا أقسى أنواع التدريب، بس كنا بنتدرب بسعادة وحب، ماكنش فيه تذمر ولا أى شعور سلبى، القائد كمال على شديد، قائد كتيبة الصاعقة اللى كنت فيها، كنا بنسميه أبوالهول، من شدة صبره وجلده، بنبص فى وشه نشوف الإصرار والالتزام والحزم، عمرى ما شفته بيضحك، بس شفته مرة واحدة بيبكى، يوم وفاة جمال عبدالناصر سنة 70».
«قدمت واجبى بفخر واعتزاز.. فين واجب الدولة؟.. وكل ما حصلت عليه ميدالية الحرب بموجب قرار الرئيس السادات
يعتز الرجل الستينى، بالسنوات الخمس التى قضاها بالقوات المسلحة حتى يوم العبور، يفتخر بالتدريبات ومشروعات الحرب والمهام التى شارك فيها خلال هذه الفترة: «شاركت مع الشهيد إبراهيم الرفاعى أحد قادة معركة الاستنزاف، فى عمليات خلف خطوط العدو خلال الفترة بين 67 إلى 73، وشاركت فى معركة جزيرة شدوان، الموجودة على بعد 35 كيلو متر فى البحر الأحمر من الغردقة، واستمرت 70 ساعة حاولت خلالها إسرائيل بقوات عسكرية ضخمة احتلال الجزيرة، واستطعنا بالصاعقة وحرس الحدود ثم تدخل الطيران، أن نقاوم على مدار نحو ثلاثة أيام، ولم يمس جندى إسرائيلى تراب الجزيرة المصرية»، كل اللحظات التى يعتز بها «سليمان» لا تضاهى لحظة فرحه واعتزازه بـ«العبور» ظهيرة يوم 6 أكتوبر: «وقتها حسينا بأن روحنا بتطلع من كتر السعادة والفخر، حلمنا اتحقق إننا حاربنا وانتصرنا واستعدنا الأرض وثأرنا لأخوتنا ولكرامتنا فى 67»، مستدركاً: «فقدت زميل كان عزيز عليَّا جداً جداً، اسمه محمد محمد مصطفى، فى منطقة عيون موسى أثناء العبور، وعلى قد حزنى عليه، على قد فرحتى بيه، وزعلى منه فى نفس الوقت، فرحان إنه نال الشهادة وشرف التضحية، وزعلان منه إنه سابنى لوحدى وماوقفش جنبى فى لحظة الاحتفال بالنصر».
كل الذكريات التى يسردها «سليمان» أحد أبطال ظل 73، لم تشفع له ليلقى تقديراً من جانب الحكومات المتتالية يضمن له حياة آمنة وكريمة، «ميدالية الحرب» هى التكريم الوحيد الذى حصل عليه بموجب قرار من الرئيس الراحل أنور السادات بمنح الميدالية لكل من شارك فى الحرب، يقول فى حزن: «دول الحرب العالمية الثانية قامت من وقت قريب بتكريم كل من كانوا على قيد الحياة، واتعاملوا معاهم بكل تقدير، معنوياً ومادياً، لكن أين أبطال حرب أكتوبر الآن، وقود الحرب الحقيقيين، للأسف لم يتم تكريمهم بالشكل اللائق من جانب أى حكومة، ماحدش سأل علينا، احنا مش عايزين فلوس، لكن عايزين تكريم وتقدير وبلدنا تحس بينا».
اليوم الأول من التحاقه بالخدمة العسكرية فى 2 يونيو 69: «أفضل يوم فى حياتى.. وكان السؤال: إمتى هنحارب؟»
يحكى «سليمان» الذى أنجب 3 أولاد، رحلة حياته بعد سنوات الحرب: «اشتغلت قطاع خاص فى 75 كمشرف معمارى، وكنت بكسب كويس لحد سنة 2013، فوجئت بإصابتى بميه زرقا وبيضا فى عينى، وقصور فى الشريان التاجى بالقلب، استحملونى 6 شهور، وبعدين قالوا لى مش هينفع تكمل معانا، قعدت فى البيت لا تأمين ولا معاش ولا أى مصدر دخل، وتراكمت عليَّا الديون، سواء من إيجار الشقة أو حتى فواتير الكهرباء»، محاولات عديدة قام بها أحد جنود النصر العظيم، ليغطى الديون التى تثاقلت على كاهله: «قدمت طلبات وشكاوى عديدة للوزراء والمسئولين، لكن دون جدوى، رُحت وزارة التضامن الاجتماعى وقدمت ليهم أوراق تثبت إنى مدان بقيمة 9 آلاف جنيه، صرفوا لى كتر خيرهم 3 آلاف جنيه لسداد فواتير الكهرباء، لكن الإيجار المتأخر لسه زى ما هو».
الحياة البائسة التى يعيشها الرجل ذو الشعر الأبيض، لا تدفعه للسخط على ماضٍ كاد فيه يفقد حياته كآلاف غيره دفاعاً عن الوطن، ما زال يفتخر بتلك الأيام، لكنه عاتب على الدولة: «قدمت دورى الوطنى بمنطلق أنه واجب عليَّا، ومعتز جداً بأداء هذا الواجب، لكن الدولة كمان عليها واجب، فين واجبها تجاهى وتجاه غيرى، أبسط شىء يصرف لينا معاشات تضمن لنا حياة مستقرة، لما سألت قالوا المعاش لمصابين الحرب فقط، طيب أنا سليم، أعمل إيه؟»، تساؤل لا يجد له «سليمان» إجابة، إلا التوجه بالدعاء إلى السميع العليم، مستدركاً مأساته: «زوجتى بتاخد علاج شهرى بقيمة 280 جنيه، وجمعية خيرية بتساعدنا، وأنا بحصل على جزء من علاجى من نفس الجمعية الخيرية، هل ده صح؟ نعيش على الجمعيات الخيرية؟».