«العلم يبنى بيوتاً لا عماد لها... والجهل يهدم بيوت العز والكرم». أين نحن من تلك القاعدة المؤكدة فى ظل ما تشهده مصر فى هذا التوقيت من كل عام من ظاهرة غريبة تتحول فيها عملية التقديم والقبول فى الجامعات الخاصة إلى بورصة تشبه إلى حد كبير بورصة الأوراق المالية؟ تتسابق الجامعات الخاصة فى ترغيب الحاصلين على الثانوية العامة وأولياء أمورهم لجذب أكبر عدد منهم، إعلانات ضخمة، صفحات كاملة فى مختلف الصحف المصرية، إعلانات التلفاز وعلى كل القنوات والمحطات، الكل يتسابق فى نشر وإبراز مزايا جامعته وكلياتها ومعاهدها المختلفة، فهذه لديها أبنية ومدرجات ومعامل مكيفة ولا تتوافر لدى الآخرين، وتلك تعلن أنها قادرة على تأجيل التجنيد، أخرى تقرر أنها الوحيدة المعتمدة شهاداتها من وزارة التعليم العالى وقادرة على توظيف خريجها فور التخرج، لدرجة وصلت معها تلك الأمور إلى أنه يكاد ألا تخلو صحيفة أو محطة تليفزيونية يومياً وعلى مدار الساعة من تلك الإعلانات الترغيبية، وما إن تتمكن تلك الرسائل الإعلانية من الطالب، وعند توجهه إلى إحدى هذه الجامعات، يُفاجأ بالمزاد المقام عليه وعلى باقى زملائه، أسعار الكليات ومصروفتها تصل إلى أرقام ما أنزل الله بها من سلطان، كليات الطب تصل مصروفاتها إلى 80 ألف جنيه فى العام الواحد، طب الأسنان 65 ألف جنيه، الصيدلة 60 ألف جنيه، الهندسة 50 ألف جنيه علاوة على مبالغ أخرى 2500 جنيه مصروفات إدارية و2500 تأمين معامل و2500 للأوتوبيس وهلم جرا.. الطالب، يا ولداه، يرتفع سقف طموحه ويتعلق بالكلية، ومعها تبدأ رحلة المعاناة لدى الأسرة بالكامل بحثاً عن تدبير تلك المبالغ الباهظة لتحقيق حلم أحد أبنائها، أولياء الأمور يشعرون بالقهر أمام رغبة الابن وصعوبة تدبير المبالغ المطلوبة، إحساس قاتل، وشعور باليأس يتعرض له كل أب وكل أم عندما يعجزون عن تلبية رغبة أحد أبنائهم أو بناتهم لضيق ذات اليد. وعلى الجانب الآخر تتعامل الجامعات الخاصة فى هذا الشأن بلغة التجارة، كل منهم يقدر قيمة المصروفات لكل كلية وفقاً لمنظور مقدار ما يُحقق من مكسب، دون أن يكون لحساب التكلفة المضاف إليها هامش ربح أى دور أو قيمة. لقد اطلعت على دراسة أعدتها جامعة القاهرة عن التكلفة المُتطلبة لطالب الجامعة، وانتهت تلك الدراسة إلى أن تكلفة طالب كلية الطب الفعلية تصل لمبلغ 22 ألف جنيه، والصيدلة 19 ألفاً، إلى آخر تلك الكليات. الفارق بين ما أعدته جامعة القاهرة وأعلنت عنه فى دراستها البحثية وبين المصروفات التى تحصّلها الجامعات الخاصة فرق شاسع وكبير ولا يمكن أن يطلق عليه هامش ربح، هامش الربح فى لغة التجارة لا يمكن أن يتجاوز بأى حال من الأحوال 25% من قيمة السلعة، لكن عندما يصل الربح إلى 250% من قيمة التكلفة فهو أمر يخرج عن لغة التجارة المشروعة ويدخل فى عداد تسميات أخرى لا يصح أن نطلقها على تصرف تلك الجامعات. يا سادة، العملية التعليمية ليست تجارة تحكمها آليات السوق والعرض والطلب، العملية التعليمية، عامة كانت أو خاصة، هى رسالة تهدف إلى بناء جيل مقبل لتحمل المسئولية، لذا فإن إخضاعها لمعايير مختلفة عن معاير التجارة أمر واجب وفرض عين. التعليم ليس خدمة مادية تباع وتشترى كالسلع الغذائية المدعومة أو خدمات الطاقة والمياه، التعليم هدف تربوى سام، الدولة دستورياً ملزمة بتوفيره وتمكين الجميع من الحصول عليه، الأغنياء والفقراء سواء بسواء، لا يجوز للدولة التذرع بعبارة أن الموارد غير كافية للإنفاق على جميع المتقدمين للالتحاق بالمدارس أو الكليات، هذه الفرية الهدف منها الهروب من المسئولية والنكول عن تقديم الخدمة المقررة دستورياً على عاتق الدولة، الدفع بالطلاب وأولياء أمورهم والزج بهم إلى أتون الجامعات الخاصة نتيجة الارتفاع الجنونى للتنسيق الذى جعل الحد الأدنى للقبول بإحدى كليات القمة يزيد على 97%، هذا الأتون المُستعر سيحرق قلوب الآباء والأمهات وسيقتل الانتماء وروح الوطنية داخل الشباب، ما هو الذنب الذى اقترفه هؤلاء الطلاب الذين حصلوا على مجموع درجات يزيد على 95% ويقل عن 97%؟؟ نعم هم متفوقون، حصلوا على درجات فى بعض المواد تصل إلى 100%، ضاعت عليهم درجة أو درجتان فى مادة أخرى، لكن النتيجة أنهم جميعاً خارج السباق. قرأت دراسة بحثية تقرر أن أعداد هؤلاء الطلاب بلغ هذا العام 42 ألفاً و641 طالباً للقسم العلمى و2505 للقسم الأدبى، جميعهم متفوقون لكن حظهم العاثر جعلهم خارج نطاق التعليم الرسمى للدولة وتركهم فريسة لمزادات وأوكازيون التعليم الخاص. تركهم لشركات لا قلوب لأصحابها ولا همّ لهم سوى جنى الأرباح، أسعار الجامعات الخاصة زادت هذا العام من 10 إلى 20% دون مراعاة للهدف النبيل الذى أنشئت تلك الجامعات من أجله. لابد من وضع رؤية مستقبلية تحمى هؤلاء الطلاب من جشع أصحاب تلك الجامعات، لا أرى مانعاً من دخول الجامعات المصرية طرفاً فى تلك المعادلة وإنشاء كيانات تسمح باستيعاب تلك الأعداد بمصروفات يمكن تدبيرها دون مغالاة، لا أرى مانع من أن تُستغل منشآت وأدوات ومعامل وأبنية تلك الكليات فى فترات مسائية وبعد انتهاء اليوم الدراسى لتمارس تلك الكليات الحكومية دورها فيها، فما المانع من إنشاء الكليات التى تسمى كليات القمة بمصروفات؟ وعلى سبيل المثال ماذا لو أقامت كل كلية طب كياناً موازياً يسمى كلية الطب بالمصروفات، تبدأ يومها الدراسى الساعة الخامسة مساء وتنتهى فى العاشرة، وتكون تلك المصروفات فى متناول دخول تلك الأسر، وعلى ذات النهج تسير باقى الكليات وبما يعظّم إمكانيات تلك الكليات التى أنفقت عليها الدولة الكثير والكثير، وهو الأمر الذى سيحد حتماً من استغلال الجامعات الخاصة لهؤلاء الطلاب وبما تنتهى معه ذرائعهم التى يروجون لها من أن ذلك يخضع لنظرية العرض والطلب وأن الأعداد المعروضة عليهم كبيرة. نعم هى كبيرة لكنها كذلك بفعل فاعل، استغلوا المنشآت الجامعية والأبنية التعليمية للحد من استغلال الأسر المصرية.
أؤمن أن السيد وزير التعليم العالى الدكتور السيد عبدالخالق لديه كافة الحقائق والمعلومات التى تحرق القلوب وتلهب المشاعر وأنه قادر على إيجاد وسيلة مشروعة للتغلب على تلك المزادات التى يُتداول فيها طلاب الثانوية العامة كأوراق مالية داخل البورصة المصرية، الوزير الحالى خريج مدرسة حكومية فى قرية مصرية بمحافظة الدقهلية اسمها نجير مركز دكرنس وتخرّج من مدرسة على مبارك الثانوية والتحق بجامعة المنصورة، إحدى الجامعات المملوكة للدولة، واستفاد فى مراحل تعليمه المختلفة مما وفرته الدولة فى هذا المجال وأبدع ونجح حتى وصل إلى ذلك المنصب الرفيع، ولذا فالدور المنوط به ضرورى وخطير، وأوقن أن لديه روشتة لعلاج تلك الظاهرة المرَضية التى تُحاك لهذا الوطن. لا يخفى على أحد أن تلك الجامعات الخاصة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بجامعات أجنبية أوروبية وأمريكية تضع نظاماً تعليمياً تحقق به رغبات تلك الدول وسياساتها المرسومة لهذا الوطن فى المقام الأول دون النظر للسياسة التعليمية أو جودتها. أفيقوا يا سادة قبل أن نستيقظ على مصيبة لا ينقذنا منها سوى المولى عز وجل، لكن ضحيتها الوحيد سيكون الوطن والمواطن، إن أول آية نزلت فى القرآن الكريم هى قوله عز وجل «اقرأ»، فالمولى عز وجل يحثنا على العلم والتعلم، فلا نهضة لأمة ولا فلاح لوطن إلا بالعلم والتعلم، ولهذا فقد استقر فى النفس أن من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم، فأين نحن من هذا فى ظل تعليم يعجز طالبه عن التفكير عند تدبير نفقاته.
وللحديث بقية ما دام فى العمر بقية.