«حيطان محمد محمود».. طريق الشهداء للوصول إلى وزارة الداخلية وسط «بركة الدم»
أنامله تقطر فنا، صار عصيا على السلطة أن تواجهه، يرسم بشرا بجناحين، وشابا جامعيا يستقبل رصاص البندقية بابتسامة، وشابة صامدة فى وجه سيل من قنابل مسيّلة للدموع، وطفلا يمسك زجاجة ممتلئة بـ«الخميرة» يرش بها الوجوه الملتهبة، إلا أنه لم يتمكن من رسم «شهيد» ألقوه فى القمامة.
الفن التشكيلى الذى درسه فى كلية الفنون الجميلة، منعه هذه المرة عن التعبير عما يكمُن فى داخله من إبداع، فرسم الجرافيتى وقت اندلاع أحداث محمد محمود، يعتبره خيانة: «كلنا كان لازم نواجه دكتاتورية العسكر والشرطة ومفيش ساعتها مجال للرسم، فالفنان حين يكون مشحوناً بالغضب لا يستطيع التعبير عما بداخله، ولا يجوز أن ترسم أنامله، فالرجولة هى الوقوف فى وجه المدفع وحماية الثوار»، هذا ما يراه وليد عبيد، الفنان التشكيلى، الذى عاصر أحداث محمد محمود منذ بدايتها وشارك فيها كمواطن.
يتذكر وليد موقفا من ضمن المواقف التى حدثت خلال أيام الثورة الـ18: «كنا نأكل معا على نفس الصينية، لقيمات صغيرة تعيننا على مشقة المبيت فى الشارع من أجل تحقيق أهداف الثورة، وفجأة سقط أمامى مغشيا عليه والدم ينزف من جميع أنحاء جسده، من رصاصات الخرطوش الغادرة، التى أودت بحياته، بينما لم أشعر بنفس الطلقات التى اخترقت كتفى، كان همى إنقاذ رفيقى».
ويرى وليد أن أحداث «محمد محمود»، أنقى وأصفى من كل أحداث الثورة، فهى خالية من النفاق والرياء: «لما صاحبك يسيبك وتلاقى واحد غريب عنك متعرفهوش واقف جنبك بيحميك وساند ضهرك وفى النهاية تلاقيه وقع شهيد».. يتذكر بحسرة الأيام الـ7، لما أسماه «شرارة الثورة الثانية».
صعد وليد سلما خشبيا مستندا على سور الجامعة الأمريكية، وراح يوثق للأحداث فى ذكراها السنوية الأولى، فجذبه شاب يمسك بيمينه كيس لب صغير اشتراه لتوه بجنيه واحد، أعطاه حبات قليلة قبل أن يوزع بقيته على نحو 10 أشخاص لا يعرفهم، ابتسم الفنان قبل أن تلمع عيناه قائلا: «ده أكيد شهيد، أنا عارف إنه هيموت قريب، أصل الحركات دى حركات مناضلين راحلين عن دنيتنا».
طوال الأحداث لم يبرح وليد مكانه، كان يرصد بعينيه الواقع ويُخزنه فى عقله، وحين يهدأ ويزول الغضب من داخله، ينكفئ على لوحته البيضاء قابضا بيديه على فرشاته، «وليد» متزوج ولديه طفلان «محمد وعلى»، سمّاهما تبركا بالرسول الكريم والصحابى الجليل، لذا يقول: «وأنا فى المظاهرات كنت بقول لو مروحتش لمحمد وعلى فى البيت هقابل اللى مسميهم باسمهم فى الجنة، وهبقى سبت لولادى شرف شهادة أبوهم».
المكان الذى يقف فيه الشاب الثلاثينى على سور الجامعة الأمريكية لم يختره صدفة «الحتة دى كانت بركة دم مش قادر أنساها.. لدرجة إن الثوار كانوا محاوطينها بالطوب» حالماً بذلك اليوم الذى تحمى فيه الداخلية شعبها: «نفسى وزير الداخلية الجديد يتصور جنب سور الجامعة الأمريكية وصور الشهداء، وتفضل الرسومات دى موجودة لحد مقر الوزارة، وقتها بس هيكون المقر مكان لحماية المواطنين مش لتعذيبهم، فالحيطان ليست رسومات وحسب، لكنها تحوى شهداء لن يرحلوا».
قال وليد: «أكثر الوجوه التى رسمتها صعوبة، الوجه الباسم للشهيد عماد عفت، وشّه فيه حاجة غريبة قوى، مينا دانيال يشاور بيديه على الشيخ الأزهرى، وتحت رعايتهما شهداء محمد محمود».
جدارية خير من ألف كلمة، يتذكر بها صاحب الأنامل الرقيقة الأحداث بعد مرور عام عليها: «فيه رمزية فى الجدارية دى، واحد تمرد على المؤسسة الإسلامية والتانى تمرد على المؤسسة المسيحية وده كله لمصلحة الثورة»، الجدار الذى استمد قوته وألوانه الزاهية بعد أحداث 19 نوفمبر، تعرض للطمس فى العديد من المرات: «مسح الجرافيتى مش هيمحى ذكرياتنا، الثورة فى قلوبنا، وإيدينا لسه بترسم، وكده كده الشهداء لسه عايشين معانا».
أخبار متعلقة:
محمد محمود عام على «دماء الحرية»
أبطال الموقعة يسترجعون تفاصيل «السبت الدامى»: الدماء لا تزال فى رقابنا
بروفايل: صفوت حجازى.. شيخ «العسكرى»
بروفايل: أحمد حرارة.. عيون الثورة
«الوطن» تشارك أهالى الشهداء ذكرى «الوجع الكبير»
«مشرحة زينهم».. شاهد على «الدم والرصاص»
«الحائط العازل».. أوقف نزيف الدم.. وجندى: «نقلناه من بنى يوسف للتحرير فى ساعة واحدة»
سكان «شارع الصدام».. أسبوع فى الجحيم
بروفايل: منصور العيسوى.. وزير بلا سلطة
بروفايل: حازم أبوإسماعيل.. الشيخ الثائر
أطباء التحرير.. جندى الثورة المجهول فى معارك الحرية
رجال الإسعاف الشعبى.. موتوسيكلات فى خدمة الثوار
حكايات «عيون» أضاءت «شارع الحرية»