3 حكايات لهاربين من «جحيم الحرب» إلى أرض «المحروسة»
«عمار» اليمنى يعيش فى منزل مشترك مع 12 عربياً من بلدان مختلفة: أشتاق لرؤية بلادى وأهلى.. ولم أجد فى مصر إلا المعاملة الطيبة
«حلم العودة» يراود الثلاثة: السورى يتمنى «معجزة» لخروج بلاده من جحيم الحرب والليبى يتمسك بأمل «صحوة الشعب».. واليمنى ينتظر استعادة «اليمن السعيد»
هنا القاهرة.. دار كل لاجئ عربى، ووطن كل مغترب، «ادخلوها بسلام آمنين» قالها الله فى كتابه، فدخلوا الثلاثة من ثلاث جهات مختلفة، مودعين من ورائهم الأرض والأهل وذكريات العمر الطويل، هنا القاهرة.. يقيمون فى أمنٍ وأمان، لا يضطهدهم نظام، ولا تلاحقهم ميليشيات مسلحة، ولا تتهدد حياتهم تحت سيمفونيات القصف متعدد الأطراف الذى لا ينقطع، يقولون: «سنعود يوماً ما.. سنعود حين يعود الوطن»، عودتان مجهولتا الموعد، عودة الوطن من أيدى مغتصبيه، وعودة الطيور الشاردة التى ضاقت عليها أراضيها، واتسعت لها الأرض المحروسة، الأرض التى نجت بأهلها من جحيم مماثل، فصارت بيت النجاة لأشقاء «الخريف العربى» الهاربين من النار.
قصة غرام كبيرة، داخل حى كبير، هو حى الخالدية، أحد أعرق أحياء مدينة حمص السورية، المدينة ذات التاريخ الطويل الذى يمتد لنحو 3 آلاف سنة قبل الميلاد، وذات الجغرافيا الفريدة التى تقع كنقطة وسط واتصال بين محافظات ومدن سوريا، وتتمتع بنهر العاصى وسهوله الخضراء وأراضيه الخصبة ومناخه المتنوع على مدار العام بين صيفٍ حار وربيع وخريف معتدلين، وشتاء قارس البرودة، هناك فى الحى الذى يقع بشمال المدينة، بالقرب من مسجد الصحابى خالد بن الوليد، وضريحه الشهير، بدأت قصة الحب بين الفتى السورى وحبيبته، فى أجواء هادئة وظروف مستقرة وطبيعة خلابة تنضحُ بالجمال، حتى بدأت المعركة، ليعلو صوت الرصاص وضربات القنابل على أغاريد العصافير وعزف القيثارة والناى، وتغرق الأراضى الخصبة بدماء أهلها فتصبح بوراً، ويندثر كل شىء جميل، وتبهت الألوان حتى تصير سواداً، وتهرب الطيور ومعها يهرب الحب الكبير من الخالدية، ومن حمص، ومن سوريا كلها، ليولى وجهته إلى القاهرة. «أنا أول سورى وصل إلى أرض مصر، بعد أحداث الثورة فى وطنى، لأنى تعرضت لملاحقات أمنية مع بداية اندلاع الأحداث، بعد مشاجرة بينى وبين الشرطة، تلقيت خلالها 4 طلقات خرطوش»، قال عزام عايد، الذى أوضح أنه لم يكن ينوى الاشتراك فى التظاهرات السورية بأيامها الأولى، لكنه خرج من منزله ليشترى «علبة سجائر»، حسب قوله، ويشاهد الذى يدور بين متظاهرين لا يتجاوز عددهم 500 متظاهر، وقوات الأمن يبلغ تعدادها الآلاف: «استوقفنى رجال الأمن، وقالوا لى أين تذهب، قلت سأشترى سجائرى وأعود للمنزل، فلم يصدقونى وقامت مشاجرة وتدخل بعض الثوار الذين كانوا بالقرب منّا، فأطلق الأمن طلقات الخرطوش والنار الحى، بعد ذلك نقلت إلى المستشفى، وتطورت الأحداث، وعلمت بسقوط ضحايا وزيادة حدة الاشتباكات، ومع سوء الأوضاع وملاحقتى من جانب الأمن، قررت المجىء إلى مصر فى النصف الثانى من عام 2011».
وحيداً قضى «عزام» أيامه الأولى فى القاهرة، بمدينة 6 أكتوبر، يفكر فى وطن رحل عنه خشية القتل أو السجن، وأهل فارقهم مضطراً، وحبيب غاب عن عينيه ولم يغب عن قلبه لحظة، وحدة لم تطل كثيراً، بعد فكرة حالمة على طريقة «الروايات القديمة» وردت إلى ذهنه، استبعد تحققها فى البداية، لكن مع مرور الوقت لم يكن أمامه بديلاً آخر، فيحكى «عزام» ذو الـ35 عاماً: «كنت فى شوق لوطنى، وشوق لحبيبتى، الوطن صعب أن ينتقل، لكن الحبيبة من الممكن أن تلحق بى، فتواصلت مع أهلها فى نفس الحى الذى كنت أسكنه، الخالدية، وأخبرتهم أنى أريدها تجىء إلى مصر لنتزوج هنا»، طلبٌ للزواج من خارج البلاد، وفى أجواء خوف وقتل ودمار، لكن الأهل وافقوا، ربما لثقتهم الكبيرة فى الفتى السورى المغترب، أو لرغبتهم فى حماية الفتاة بعيداً عن موت قد يطال الجميع، أو ربما للسببين معاً: «أهلها كانوا يعرفون أنى أحبها جداً، وكان يعرفوننى ويثقون فى بلا شك، والحمد لله وافقوا على طلبى، انتقلت الحبيبة التى صارت الآن زوجةً لى، من سوريا إلى مصر، برفقة أحد رجال العائلة، وفور وصولهما معاً تزوجنا وعقدنا حفلاً صغيراً، ثم عاد الرجل بمفرده إلى سوريا».
داخل منزل بسيط، فى الحى الـ12 بمدينة 6 أكتوبر، عاش «عزام» وزوجته، حياتهما الجديدة، حياة بسيطة وهادئة ومستقرة، حوالى 4 أعوام رزقا خلالها بـ3 أطفال، هم: «عبيدة وعمرو» التوأمان، اللذان يبلغان من العمر قرابة عامين، و«الشام» الطفلة الصغيرة التى لم تتخط عامها الأول: «سميتها الشام لاستحضار أرضٍ أشتاق إليها، حين أنظر إلى عينيها كأنى أرى سوريا الحبيبة والشام الذى كان جميلاً قبل أن يفسده الطغاة السفاحون وعملاء إسرائيل والأمريكان»، يقطع «عزام» حديثه ويستأذن لثوانٍ مغادراً الكرسى الذى كان يجلس عليه، فى صالة متوسطة المساحة مواجهة لباب المنزل، المتعلقات كلها بسيطة، تليفزيون صغير، مروحة سقف، برواز على الحائط فى محاولة لإضفاء زينة غائبة عن المكان، بعد قليل عاد السورى الذى كان يرتدى قميصاً غامق اللون، وبنطالاً جينز أزرق، يحمل صينية محملة بثلاثة فناجين، وإبريق صغير تفوح منه رائحة بن عالى الجودة: «هذا البن سورى، لا أستطيع أن أتذوق غيره، فيه شىء من لذة الوطن ومرارته»، قال «عزام» مؤكداً أن واجب الضيافة «فريضة سورية» على غرار المصريين.
«عزام» حضر من سوريا إلى القاهرة فراراً من نظام بشار
متشابهات كثيرة بين الشعبين السورى والمصرى، بحسب «أبى عمرو» دفعته إلى أن تكون مصر هى الوجهة الأولى والآمنة له فور مغادرة بلاده: «سوريا ومصر كانتا متحدتين تحت قيادة واحدة، كما أن البلدين يتمتعان بحضارة طويلة تمتد لآلاف السنين، وتجمع بينهما ثقافة متشابهة»، مضيفاً أن مصر أكثر البلاد العربية أمناً واستقراراً فى هذه الأوقات، فرغم الأحداث السياسية والثورية التى مرت بها، فإنها استطاعت أن تمر من أزمتها وتحافظ على استقرارها وحياة شعبها من التمزق الذى حدث فى الدول العربية الأخرى: «ربنا قال فى قرآنه: ادخلوها بسلام آمنين، وهنا أعيش آمناً مع زوجتى وأطفالى، فعلى مدار نحو 4 أعوام لم أتعرض لمشكلة أو أذى»، مشيراً إلى أن مشكلته الوحيدة فى مصر هى «العمل»، نظراً لمعاناته جسدياً وعدم تحمله بذل أى مجهود بسبب آثار إصابته فى بدايات الأحداث السورية، فضلاً عن محدودية فرص العمل فى مصر: «نعرف أن مصر تحاول أن تخرج من كبوتها وتحل أزمتها الاقتصادية، وبعض الشباب المصرى ما زال يبحث عن عمل، وبالتالى سيكون الأمر صعباً بالنسبة لنا، أتفهم ذلك، لكنى بين الحين والآخر أقوم ببعض الأعمال الخفيفة إلى جانب المساعدات السورية لرعاية أسرتى»، خلال حديثه عن الثقافتين السورية والمصرية أوضح «عزام» أنه نشأ وتربى على أغنيات كوكب الشرق أم كلثوم، والعندليب عبدالحليم حافظ، لكن الغناء الآن فقد قيمته بحسبه، «لا توجد غنوات تؤثر فينا مثل زمان، وبصراحة لا يوجد مزاج لدينا للطرب أيضاً، كيف نسمع موسيقى وندندن معها، والصواريخ والقنابل تصوّب من كل جهة فى وطننا العربى؟».[FirstQuote]
4 أعوام قضاها «عزام» فى مصر، بدأت بزواج، ثم إنجاب طفلين، ثم إنجاب الطفلة الثالثة التى سماها باسم أرض غادرها، أسرة تكونت وصار مسئولاً عنها، عمل يبحث عنه ومصادر رزق يطرق أبوابها ومساعدات بسيطة يعول بها أسرته، ماكينة حياة جديدة دخلها، وسار فيها، لكنه لم ينشغل بها عن وطن يعيش فى داخله، وما زال يحلم بالعودة إليه، يحمل ابنته الصغيرة، والدموع فى عينيه، يتماسك حتى لا يبكى، تختلط عليه نظرة «الشام» التى يحملها، وأرض «الشام» التى فارقها، وأهل «الشام» من أهله السوريين الذين ينتظرون الموت كل صباح ومساء، فى معركة تداخلت فيها الخيوط والوجوه والأطراف والمصالح وجبهات النار.
يا شامُ، إنَّ جراحى لا ضفافَ لهــا
فامسّحى عن جبينى الحزن والتعبَ
أتيتُ من رحمِ الأحزانِ.. يا وطنى
أقبّلُ الأرضَ والأبـوابَ والشّهــبَ
حبّى هـنا.. وحبيباتى ولـدنَ هـنــا
فمـن يعيـدُ لىَّ العمرَ الذى ذهـــبَ؟
كلمات نزار قبانى، الشاعر السورى الذى يهوّن الغربة قليلاً على ابن وطنه الهارب من نار بشار الأسد، وجحيم الجماعات الإرهابية التى صنعها أعداء سوريا، حسب قوله، أشعار وذكريات وزوجة و3 أطفال، هى كل ما يملك الآن، ودعوات وأمنيات وأحلام، هى كل ما ينتظر: «أحلم بأن أرى سوريا من جديد، وقد عادت كما كانت فى الماضى، جميلة ومستقرة وأرض خير وحب وسلام، وأتمنى لأولادى أن يكبروا ليعيشوا حياة أفضل من التى عاشها أبوهم وأمهم»، مستدركاً بعد لحظات تدحرجت فيها دمعةٌ كان يحبسها فى عينيه، لكنها تمردت لتسقط على وجه طفلته الصغيرة، قائلاً بالعامية المصرية: «مش عايز ولادى يشوفوا اللى أنا شفته، مش عايزهم أولاد نار وقتل، بحلم يبقوا أحسن منى، وأيامهم أحسن من أيامى». يمسح «عزام» دموعه، ثم يتوقف «عبيدة» و«عمرو» عن اللعب، ويسارعان إليه، وأعينهما مليئة بالخوف والترقب، يحتضنهما، وثالثتهم «الشام»، ثم بعد دقائق يستعيد فيها توازنه ويتماسك مجدداً، يقول: «سوريا أمى وأبى، لا تغيب لحظة عن عقلى وقلبى، أحلم بالعودة رغم الاستضافة الكريمة لى فى مصر الحبيبة، ومعاملة أهلها الطيبين»، ثناء وشكر متكرر من «عزام» للشعب المصرى، باسمه وباسم كل سورى، وكلمات حب وتقدير للبلد الذى يعتبره وطنه الثانى، مضيفاً فى ختام حديثه: «كل التحية والحب، بكل صدق وإخلاص، للمصريين، فهم أهل كرم وعزة، وأدعو الله أن يحمى هذا البلد الآمين».[SecondQuote]
حزن، ألم، عينان منكسرتان، دموعٌ تحنُ إلى الماضى، صوت مختنق بالحسرة وقلة الحيلة، حال الشاب السورى أثناء رواية قصته، قابله حالٌ مختلف لرجل آخر، جاء إلى القاهرة من جهة الغرب وليس الشمال، طرابلس وليس حمص، يتحدث بأمل، وينطق بقوة، وينظر فى تحد، كأنه يثق فى عودة بلاده التى سقطت فى غيابة الجُب، «ليبيا ستنتصر بلا شك، وستعود أفضل مما كانت»، قال مفتاح زروق، الليبى الذى غادر بلاده فى 2011 مع تصاعد أحداث 17 فبراير، التى يسميها البعض «ثورة» فيما يسميها هو «مؤامرة»، رحل قبل أيام من مقتل معمر القذافى، الرئيس الليبى الراحل، «طرابلس ثم تونس ثم القاهرة»، محطات ثلاث قطعها وصولاً إلى قلب المنطقة العربية الآمن، بحسب وصفه، «جئت القاهرة قبل استشهاد القائد القذافى، وهذه الأحداث التى دمرت البلاد لم تكن ثورة، ولكن مؤامرة، بدليل أن درجة الأمن والأمان كانت كبيرة جداً فى ليبيا قبل 2011، أما الآن فلا أمن ولا أمان، وفقد بلدنا هيبته وعزته ومجده»، المؤامرة التى وصفها «مفتاح» قادتها الولايات المتحدة بمشاركة قطر وتركيا وتنظيم الإخوان، فى إطار خطة إسقاط العواصم العربية وتدمير جيوشها، على حد قوله، لكن الليبيين استيقظوا، وقريباً جداً سينجحون فى استرداد أراضيهم وبناء دولتهم، حسبما يؤكد: «أنا على اتصال دائم بأهلى وأخوتى وأشقائى فى ليبيا، الجميع شباباً وشيوخاً أصبحوا على قلب رجل واحد ضد الإرهابيين وعملاء الناتو، الذين صفقوا لقصف طرابلس بطائرات الأمريكان».
«عمار» الشاب اليمنى خلال حديثه مع «محرر الوطن»
يسترجع الرجل الأربعينى ذكريات طفولته فى ليبيا، وأيام شبابه، يبتسم، يشرد بذهنه، يصمت قليلاً لا يحرك ساكناً، ثم يقول: «كانت أيام جميلة، أمن واستقرار ورخاء ودولة قوية»، مستدركاً فى حدة: «لكن العالم كله سيفاجأ بصحوة ليبيا فى وقت قريب، سيعود كل شىء لما كان عليه، وسيسقط الخونة والعملاء، واقتربت ساعة الحسم». الساعة نفسها التى رددها «القذافى»، لكنه سقط قتيلاً قبل أن تأتى، وإلى الآن لم تدق عقاربها بعد، غادر «مفتاح» بلاده، إلا أن أولاده الأربعة لم يغادروا، يقيمون الآن فى مدينة بنغازى، ويحملون السلاح لمقاومة العناصر الإرهابية، حسبما أوضح: «تجرى بينى وبينهم اتصالات بصفة مستمرة، وألتقيهم من فترة لأخرى أثناء تنقلى بين مصر وليبيا، أولادى مثل أغلب الشباب الليبى، لديهم شعور بالعزة والكرامة، ومصرون على استعادة وطنهم، وطرد الخلايا العميلة التى زرعتها أمريكا وحلفاؤها»، انتصار مصر بوحدة شعبها وجيشها، على المشروع الإخوانى فى 30 يونيو، واستقرار الأوضاع تدريجياً خلال العام الماضى، واستنهاض الدولة لممارسة دورها عربياً وأفريقياً ودولياً بعد 4 أعوام من التراجع، ساهم فى ارتفاع الروح المعنوية للشعب الليبى، ورغبته فى «30 يونيو» مماثلة داخل أراضيه: «ما حدث فى مصر ساهم فى دعم إرادة كل ليبى، عودة الشقيقة الكبرى واستقرارها استنهض عزمنا ورغبتنا فى عودة ليبيا وتوحيد صف الشعب حول قيادة سياسية وعسكرية واحدة للخروج من دوامة الفوضى والتمزق».
يضحك «مفتاح» بسؤاله عن شعوره بالاغتراب عن الوطن: «أغترب عن وطنى كيف يا أخى؟ أنا هنا فى مصر أعيش فى وطنى، وطنى العربى الأكبر وعاصمته القاهرة، كيف أكون عربياً وأشعر فى القاهرة بالغربة؟»، فى مدينة نصر قرر أن يقيم الرجل الليبى، وبين عدة مناطق فى قلب القاهرة والجيزة تدور أغلب تنقلاته، يلتقى بأصدقائه من المصريين والليبيين، يفضل الجلوس بالمقاهى الشعبية عن الذهاب إلى المولات الكبيرة، لكن مدينة مرسى مطروح، الأقرب للحدود الليبية، هى الأقرب إلى قلبه، فلا يتوقف عن زيارتها كل حين، والإقامة فيها لعدة ليالٍ وأيام: «أشعر بأن مطروح امتداد طبيعى لوطنى ليبيا، وجزء منه، هناك لا يستطيع أحد أن يميز بين المصرى والليبى، وعلاقات المصاهرة والنسب والحب والصداقة بين الجميع، داخل كل بيت ليبى فى مطروح قد تجد مصرية، وداخل كل بيت مصرى قد تجد امرأة ليبية». يحتفظ «مفتاح» فى منزله بصورة للرئيس الراحل جمال عبدالناصر، «زعيم العروبة» حسبما يصفه، يعتبر «ناصر» رمزاً له، ورمزاً لوطنه الصغير ليبيا، ووطنه الكبير الذى يمتد من المحيط إلى الخليج، وعاصمته القاهرة: «أنا رجل ناصرى عروبى، جمال القائد والمعلم يعيش فى خاطرى وعقلى، نستلهم منه العزة والكرامة والحرية»، متابعاً: «حرية ناصر تختلف عن حرية واشنطن، فالأولى تعنى استقلال الوطن وسيادة الأرض وكرامة الشعب، والثانية تعنى الاحتلال والفوضى والعمالة والتدمير، لكننا سننتصر بإذن الله».[ThirdQuote]
من أرض أخرى، تقع فى جهة أخرى، وتتسم بثقافة أخرى، لكنها تعانى الجرح نفسه، جاء «عمار العجيلى» إلى مصر قبل 8 شهور مودعاً اليمن الذى كان سعيداً ولم يعد، فور وصوله إلى القاهرة استقل أول قطار إلى محافظة الغربية، ليبدأ ابن الـ19 عاماً، دراسته الجامعية، ويلتحق بكلية الطب فى جامعة طنطا، الطب الذى كان من الصعب دراسته تحت قنابل الحوثيين، وصواريخ القاعدة، والضربات الجوية لعاصفة الحزم. «عمار» غادر أهله فى صنعاء، وحضر إلى مصر وحيداً، لكنه سرعان ما أصبح فرداً ضمن رابطة كبيرة تضم 12 صديقاً من بلدان عربية مختلفة التقى بهم داخل الجامعة، تنوعت جنسياتهم ولكناتهم ودوافعهم للسفر خارج أوطانهم، فيما التقوا فى مستقرٍ واحد جمعهم معاً، وتحت وطأة ظروف واحدة لم تميز كثيراً بينهم، رابطة تطغى عليها معانى الإخوة والحب والتعاون والاتحاد، معانٍ قد تكون غائبة عن إقليم ممزق ومشتت ومتصارع ينتمون له جميعاً، لكنها حضرت بينهم، فى أحد المطاعم اليمنية بالقاهرة، كان «عمار» وزملاؤه العرب يجلسون على مائدة طعام واحدة، عامرة، ممتدة، تصطف من حولها الكراسى، وتتشابك عليها الأيادى، وتتداخل الأصوات، صوت سورى، تقاطعه لكنة عراقية، يعقبها لسان سعودى أصيل، يستوقفه نداء فلسطينى، إلى أن تخطف آذان الجميع ضحكة سودانية جميلة.
«رحلت عن صنعاء وجئت إلى القاهرة بسبب رغبتى فى دراسة الطب، الأوضاع فى بلدى أصبحت صعبة جداً، وأعمال الدمار والتخريب لا ترضى ربنا ولا ترضى أى إنسان عنده ضمير»، قال «عمار» مشيراً إلى أنه على اتصال دائم مع أهله الموجودين فى العاصمة اليمنية حالياً: «أتصل بهم باستمرار، لأطمئن على حالهم وحياتهم، وأعرف التطورات التى يمر بها الشعب اليمنى»، يصمت قليلاً ثم يستدرك بعد ابتسامة يتوارى خلفها ألم وحسرة: «كل مواطن يمنى هو أخى، وأى أذى يتعرض له يمنى يؤثر علىَّ، وأشعر بأن شقيقى ابن أمى هو الذى تعرض لهذا الأذى، اليمنيون طيبون ويحبون العيش فى سعادة وهدوء، ما كانوا يستحقون هذا الدمار الذى حدث»، «عمار» أثنى بشدة على المعاملة التى يلقاها من المصريين خلال حياته اليومية سواء فى طنطا حيث يدرس، أو فى القاهرة حيث يتنزه مع أصدقائه أيام العطلة أو الراحة: «حقيقة لم أجد إلا المعاملة الطيبة والحب والكرم من كل مصرى قابلته هنا، نشعر أننا فى وطننا لذلك يسمونها أم الدنيا، المصريون شعب كريم وطيب، وليس بدليل على ذلك أكبر من معاملة صاحب المنزل الذى نستأجره فى طنطا، الرجل يعاملنا كأننا أبناؤه ويحترمنا جداً ويساعدنا بصورة لم نتوقعها»، رأى الشاب اليمنى تشابه مع باقى الآراء من زملائه الذين انتهوا من تناول وجبتهم المشتركة، ليبدأوا نقاشاً مشتركاً يغلب عليه الطابع الإنسانى والاجتماعى، بعيداً عن تفاصيل السياسة وخلافاتها ومُخلفاتها التى هربوا منها.
ثلاث ثورات تحولت كل منها إلى جحيم، فى ثلاث دول لم يبق منها إلا أسماؤها وركام كبير من الذكريات، دعوات متشابهة يرددها ثلاثة فروا إلى الأرض المحروسة، وجدوا فى مصر مستقراً لهم، وطناً ثانياً يسكنون إليه، وشعباً أجمعوا على وصفه بـ«الطيب»، يعيشون بين أهله فى راحة وأمان، لكن الحنين إلى الوطن يملأ وجدانهم جميعاً، وتحاصرهم دون استثناء ذكريات الأهل والأرض، ويراود كل منهم حلم العودة. سورى يحلم بالعودة إلى أرض يصفها بـ«درة الشام» اغتصبها حاكم ظالم ودمرها إرهاب صُنع فى الداخل والخارج بحسبه، وليبى ينتظر ميلاداً جديداً لـ«وطن تمزق» كان قبلة العاملين فصار قبلة المتطرفين وتجار الموت والسلاح، ويمنى يتحسر على أطلال «اليمن السعيد» الذى تحول بين ليلةٍ وضحاها إلى يمن تعيس وبائس، على غرار إقليم كامل يغرق فى التعاسة والبؤس.