إصلاح منظومة القضاء "على الطريقة الأوروبية"
فشل النظام القضائى فى بعض الدول يتسبب فى النهاية بأضرار لا حصر لها، فعدم تطبيق قوانين العدالة الجنائية يحد من النفوذ القانونى على المواطنين والمسئولين، وهو ما يعنى تراجع مستويات الحريات والشفافية، فى مقابل ارتفاع معدلات الفساد والقمع وتدخّل السلطة التنفيذية فى كل شىء. وبشكل عام، فإن وجود نظام قضائى شفّاف وعادل هو أمر ملح وضرورى لتحقيق النمو الاقتصادى. وبمعنى أدق، وحسب ما رصدته دراسة صندوق النقد الدولى عن النظام القضائى فى إيطاليا، فإن «وجود نظام قضائى مستقل وعادل ويعمل بشكل طبيعى، هو واحد من أهم العوامل اللازمة فى سبيل اتخاذ قرارات معقولة ومنطقية ومناسبة تضمن وصول كل شىء إلى مستحقيه، بداية من تطبيق القانون، وحتى حصول المواطنين على الحقوق الفردية وحقوق الملكية. والأهم أن تحسين النظام القضائى ينتهى فى النهاية إلى تحسين مناخ الأعمال والاستثمار والابتكار، كما أنه يجذب الاستثمارات الخارجية من خلال ضمان تطبيق القوانين المتعلقة بالضرائب ودعم النمو الاقتصادى بشكل كامل، دون أى تعدٍ من السلطة التنفيذية».
حسب الدراسة التى أعدها صندوق النقد الدولى، فإن «النظام القضائى الإيطالى هو أقل الأنظمة القضائية فى أوروبا من حيث المعايير والعدالة. وعلى سبيل المثال، يتطلب الأمر -فى المعتاد- 1185 يوماً لتنفيذ عقد ما فى إيطاليا، وهى نسبة تصل إلى ما يزيد على ضعفى النسبة المعتادة فى أعلى الدول الأوروبية دخلاً، كما أن إيطاليا تعد من أقل الدول فى معدل حل القضايا الإدارية والجنائية والتجارية والمدنية، وأبطئها من حيث مدة إصدار الحكم، حيث إن المدة الطبيعية فى الدول المحيطة بها تصل إلى 788 يوماً لإصدار حكم فى قضية مدنية، فى حين أن الأمر يستغرق ثمانى سنوات على الأقل فى المحاكم الإيطالية».
وحسب تصنيف المنتدى الاقتصادى الدولى، فإن إيطاليا فى المركز 139 فى ما يتعلق بكفاءة النظام القضائى وإطار العمل القانونى فيها، ورغم أن عام 2012 شهد انخفاضاً ملحوظاً فى عدد القضايا التى تنتظر الحكم فى المحاكم الإيطالية، فإن عددها لا يزال ضخماً، مقارنة بالدول الأخرى، حيث وصل عدد القضايا العالقة فى عام 2013 إلى 9.7 مليون قضية، من بينها 5 ملايين قضية نزاع مدنى.
وأشار «صندوق النقد الدولى» إلى أن انعدام كفاءة النظام القضائى فى إيطاليا يعد واحداً من أهم أسباب بطء معدل النمو الاقتصادى بها، خصوصاً فى ظل ارتباط الاستثمارات الأجنبية المباشرة بشكل كامل بالنظام القضائى، بمعنى أن المستثمرين الأجانب يبحثون أولاً عن دول نظامها القضائى عادل، حتى يمكنهم الحصول على حقوقهم فى حال وقوع خلافات، وهو أمر ينعدم وجوده فى الحالة الإيطالية، كما أن ضعف القبضة القانونية تضعف بالتالى تنفيذ العقود الموقّعة بين الشركات المختلفة، وهو ما يرفع المخاطر الاقتصادية فى إيطاليا ويهدّد سوق العمال ويقلّل من المبادرات والابتكارات الجديدة لرفع المستوى الاقتصادى.
انعدام كفاءة القضاء الإيطالى له أسباب عدة، أهمها ارتفاع عدد المحاكم فى الدولة، مقارنة بحجمها، إضافة إلى ارتفاع تكاليف ورسوم القضايا، حيث إن إيطاليا فى المركز الثانى من حيث عدد المحاكم فى الاتحاد الأوروبى وتحتوى على 1231 محكمة للدرجة الأولى وحدها، كما أن تكاليف ورسوم القضايا تصل تقريباً إلى ضعف نظيرتها فى الدول الأخرى فى الاتحاد الأوروبى، كما أن تلك الرسوم والتكاليف لا تضخ إلى خزينة الدولة، وهو ما يزيد من الأعباء تباعاً على الاقتصاد الإيطالى.
أما السبب الثانى، حسب دراسة صندوق النقد الدولى، فيرجع إلى ارتفاع عدد القضايا العالقة فى المحاكم، بمعنى أن ارتفاع أعداد القضايا يتسبّب فى انخفاض معدل الشفافية فى المحاكم. وحسب الدراسة، فإن السبب الثالث هو الارتفاع الهائل لعدد المحامين العاملين فى إيطاليا، حيث إن العدد يصل إلى حوالى 350 محامياً لكل 100 ألف ساكن. وأضافت الدراسة: «المشكلة أيضاً تكمن فى أنه يمكن لأى محامٍ من أى درجة أن يقدّم طلب الاستئناف أمام محكمة الاستئناف الإيطالية، فى حين أن دولاً أخرى تفرض أن يكون المحامى من درجة معينة حتى يمكنه تقديم الطعن أو الاستئناف أمام المحكمة العليا».
وفى الوقت ذاته، فإن «العبء على محاكم الاستئناف يقلل من مصداقيتها، حيث لا يمكن لمحكمة الاستئناف إقرار ما إذا كان الطعن يستحق القبول أم لا، بمجرد النظر فيه، وهو ما يعنى وجود عيوب فى منظومة العمل القضائى»، إضافة إلى أن هناك عاملاً آخر مهماً هو أن طول أمد المحاكمة يقلل من مصداقيتها، ويدفع الأطراف المتنازعة إلى اتخاذ قرارات أخرى، بعيداً عن منظومة العمل القضائى.
أما العامل الأهم فى فشل المنظومة القضائية الإيطالية، حسب الدراسة، فهو الإجراءات المعقّدة والطويلة دون داعٍ فى المحاكم الإيطالية، حيث إن الإجراءات المعقّدة تتسبّب فى تأجيل وطول أمد الإجراءات والقضايا وحتى طول أمد تنفيذ الحكم الصادر بعد انتهاء القضايا.
فشل المنظومة القضائية الإيطالية استدعى اتخاذ إجراءات لإصلاحها، وهو ما دفع السلطات الإيطالية إلى اتخاذ مجموعة من الإجراءات والمبادرات لإصلاح الخلل فى المنظومة القضائية ونظام العدالة بشكل عام. وأضافت الدراسة: «تلك المعايير تتضمن تقليل معدل القضايا المقدّمة إلى المحاكم، من خلال زيادة الرسوم المفروضة على رفع الدعاوى القضائية، إضافة إلى وضع قيود على طلبات الاستئناف، حتى لا يلجأ أصحاب القضايا الضعيفة إلى الطعن على الأحكام، إضافة إلى تغيير رسوم المحامين، ووضع منظومات جديدة لمحاولة الوساطة وحل القضايا الخفيفة دون رفعها إلى المحكمة، وبالطبع تقليل عدد المحاكم وتعزيز سلطة القانون وإعادة تنظيم القوانين، وتنظيم عمل القضاة على القضايا المختلفة.
اتخذت السلطات الإيطالية أيضاً عدة إجراءات أخرى، لكن كان لها أثر عكسى، فعلى سبيل المثال، حاولت السلطات تقليل أمد التقاضى، من خلال منح المتقاضين حق الحصول على تعويض فى حالة طول مدة التقاضى، إلا أن هذا القانون جاء بنتائج عكسية، حيث تسبّب فى زيادة الرسوم المفروضة على القضايا المختلفة. وفى الوقت ذاته، اتخذت السلطات الإيطالية إجراءات أخرى تهدف إلى تعزيز نظامها القضائى، بهدف جذب وطمأنة المستثمرين الأجانب، من خلال مبادرة «الوجهة إيطاليا»، التى تضمنت مجموعة من القوانين، على رأسها منح المحاكم الاقتصادية سلطات التشريع الاقتصادية كاملة، إضافة إلى وضع قيود على الاستئنافات والسماح للأطراف بالوساطة، دون وجود محامٍ، إضافة إلى مراقبة تنفيذ وتحقيق القوانين الإدارية فى أنحاء الدولة، بهدف تحسين النظام القضائى والتنفيذى.
وحسب صندوق النقد الدولى، فإن الإجراءات التى اتخذتها إيطاليا لإصلاح النظام القضائى بشكل عام هى خطوات فى الطريق السريع، لكن يمكن زيادة وتيرة الإصلاح من خلال بعض الإجراءات الأخرى، مثل تعزيز القوانين المدنية والنزاعات المدنية، إضافة إلى نظر القضايا، حسب الأولوية. وفى تقرير للحكومة البريطانية عن أداء النظام القضائى البريطانى، أكدت الحكومة أن وجود آليات تنفيذ وتطبيق للقانون ولنظام العدالة الجنائية بشكل محكم من خلال تحميل الأشخاص المسئولية عما يرتكبونه بشفافية ودون تحيُّز، هو الأمر الرئيسى فى محاولة إصلاح نظام العدالة الجنائية لأى دولة بشكل عام. وأشارت الدراسة التى أعدها مكتب رئيس الوزراء البريطانى، إلى أن أحد أبرز أسس إصلاح النظام القضائى فى بريطانيا هو الشفافية، من خلال السماح بحرية الوصول إلى المعلومات عن الجرائم ونتائجها وأداء النظام القضائى وخدماته، إضافة إلى تسجيل ما يجرى داخل المحاكم وبثه بهدف الشفافية.