كانت ساحة لعبنا ونحن فى سنوات الطفولة إلى جوار منزلنا القديم تلال الرمال الملاصقة لسد وادى العريش، التى لم يعد لها أثر يُذكر اليوم.. لفت نظرى، ورفاق اللعب، عجوز على حمار يصل يومياً عند آخر ضوء للنهار، قادماً من مزرعته خلف مجرى الوادى العتيق، يربط حماره إلى حجر لا يتغير موضعه.. يمشى عدة خطوات حيث يصلى المغرب فى ذات المنطقة.. تمر الأيام والأسابيع والأمر على حاله لا يتبدل.
كان المسجد قريباً على بُعد أقل من مائة متر، إلا أن الشيخ لم يغير موقفه.. الصلاة هنا وليست فى أى مكان آخر.. يجلس بعد الصلاة يطيل الدعاء فى خشوع وتضرع خافت صامت حتى تتبلل ذقنه بالدموع، ولا أظن أننى رأيت أحداً طوال حياتى بنفس القدر من الخشوع والتضرع إلى الله وكأنه يخلق لنفسه مجالات ربانية تخرجه عن الشعور بمن حوله.
أثار الأمر فضولنا، ولكننا لم نعرف تفسيراً لما يفعله، كما لم نتمكن من معرفة قصة الرجل، ولم يكن بمقدورنا تجاهل المشهد المتكرر أو التغاضى عنه.. الشىء المؤكد أننا بقينا نراقب الرجل عن بُعد ونتوقف عن اللعب طوال وجوده دون أن ندرك السبب.. احترام.. خوف.. أو أى شىء آخر.. هذا ما ظل يحدث طويلاً.
الحفر فى الرمال وإخفاء بعض الأشياء كان الجزء الأهم فى لعبة تتكرر كل يوم مع تغيير المكلَّف بالحفر والإخفاء، ثم يرتد الآخرون للبحث عنها ويفوز من يجدها، وتلك اللعبة على ما أذكر اسمها «عضيم».. يومها أصابنى الدور، وصار علىَّ أن أحفر وأخفى.. وما إن بدأت حتى اصطدمت يدى بجسم صلب أخذ ينكشف مع استمرار الحفر عن جمجمة بشرية أثار العثور عليها الرعب والفرع فى قلوبنا جميعاً، ورحنا نخمن حقيقة الأمر، إلى أن اقترح أكبرنا أن نعاود دفنها بسرعة قبل وصول العجوز، مرجحاً أن تكون لولده، وأن يكون ضمن شهداء الحرب الأخيرة، وصلاة الرجل فى نفس موضعها وبعيداً عن المسجد تأتى ترحماً عليه وتفسر ما عجزنا عن فهمه طويلاً.
ما كدنا نفعل ونعيدها سيرتها الأولى حتى وصل الرجل.. مسح الأرض بيديه ليسويها صالحة للصلاة.. كعادته صلى وانصرف فى هدوء دون أن يلتفت لنا، بينما كنا نراقب طوال الوقت.
لم أنم ليلتها.. خوف وتفكير ومحاولة الفهم، فهى المرة الأولى التى أتعامل فيها مع مثل هذا الأمر «الموت والفناء وبقاء الذكرى».. لم تفارقنى فكرة أديم الأرض الممتزج بدماء وعظام الشهداء طوال حياتى، ولعلى صرت أخاف الحفر فى ثراها حرصاً واحتراماً لمن مات من أجل الأرض.. وهو ما لم يمنعنى فى وقت لاحق من الاحتفاظ ببعض الرمال فى زجاجة رافقتنى سنوات طويلة.
مرت أحداث لا حصر لها صارت من الذكريات، بعضها لا يُنسى وتستحضره الذاكرة مع كل مناسبة.. أهمها البيان الأول بعبور قناة السويس فى السادس من أكتوبر، وغيره من أمجاد خالدة.. إلا أن رفع العلم والرحيل الإسرائيلى عن أرض سيناء واختفاء المحتل منها كان له بالغ الأثر فى نفسى، ما دعانى للبحث عن تلك الزجاجة بما فيها من رمال، وكم تمنيت لو أننى عثرت على ذلك الشيخ لعلى أتأكد من تلك الرواية وحكايات أظنه أعلم بها منى.. لعلى أعطيه ذلك الثرى المقدس.. أشاركه الترحم على أرواح الشهداء الذين أعادوا لنا أرضنا.. رايتنا.. نفوسنا مطمئنة.. كرامتنا وقيمنا.
فى كل شبر من أرض سيناء صارت لنا ذكريات.. هنا ولدنا وكبرنا وصار لنا أولاد وبنات كبروا وصرنا شيوخاً.. علمناهم ما علمتنا أمهاتنا.. أحببنا هذه الأرض حتى صارت شغلنا وشاغلنا.. هوى النفس والروح.. ورثته ذريتنا عنا وعن جدودنا.
واتتنى الفرصة بعدها بوقت ليس بقليل حين وجدت نفسى بنفس الساحة التى ارتفع بها العلم بعد تحرير كامل التراب.. لعلى ذهبت متعمداً.. واجهت السارى.. أخرجت زجاجة التراب المقدس، ورحت أحدثها، فيما يرمقنى مندهشاً نفس الصديق الذى كان معى يوم العثور على الجمجمة عند سد الوادى.. لا أذكر كل ما قلته للثرى فى زجاجته أو للعلم فى السماء، بيد أننى لن أنسى أننى نثرت التراب حول العلم وصليت المغرب عنده.