لا حل، ولا منقذ، ولا نجاة مما نحن فيه إلا بالقانون. وأعنى -هنا- ترسيخ قاعدة «قوة القانون» وإنفاذ نصوصه بكل قوة على الجميع بغير تمييز، فما نهضت أمة وتقدمت إلا بقوة القانون، وما تخلفت دولة وتمزقت وضاعت هيبتها إلا بقانون القوة.
هذه مقدمة بسيطة أسوقها فى مستهل رؤيتى المتواضعة، وأوقن أن الجميع بلا استثناء يتفق معى فى أن الفرد فى أى مجتمع يشعر بالأمان عندما يكون متأكداً من أن القانون، والقانون وحده، هو الرقيب عليه، وأنه خاضع لنصوصه وعقابه مثله مثل غيره دون انتقاء أو تفرقة، وأن الكلمة العليا لما ورد فيه من نصوص، وأن يوقن بأن قوة القانون تحفظ لكل ذى حق حقه وهى وحدها التى تردع كل معتدٍ أو آثم، وهنا سيشعر الجميع بأنهم أمام القانون سواء، لا فضل لأحد على أحد إلا بالالتزام به وتطبيق نصوصه والتمسك بتطبيقه.
ولتفعيل ذلك لا بد أن يتلازم مع قوة القانون عدالة ناجزة ومنجزة، معصوبة العينين، ممتدة إلى رقبة ويد كل باغٍ، معتدٍ، أثيم، قائمة على قضاء حر قائم على الاستقلال التام، غير منحاز لهذا أو لذاك، فالقانون وقوته والقضاء واستقلاله وتجرده تمثل الحصن الحصين والركن الركين لأى مجتمع يبتغى الرقى والتحضر والنهوض والتقدم، وبغيرها تهوى الشعوب والدول وتسقط المؤسسات والمجتمعات وتتحول الحياة إلى غابة لا ضابط فيها ولا رابط.
ولا يخفى على القارئ العزيز أن عصر الجاهلية كان قائماً على أنه إذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد وإذا سرق الغنى تركوه، تلك كانت مصيبة ترسخت فى الجاهلية وامتدت إلى ما بعدها كمطية تمتطيها بعض الأنظمة الاستبدادية التى تهاوت وسقطت فى أول اختبار حقيقى واختفت تلك الأنظمة وتلاشت غير مأسوف عليها ولا يذكرها التاريخ إلا بأسوأ العبارات والنعوت.
ولهذا لا بد من وقفة قوية تواجه كل من يحاول إنتاج فكرة قانون القوة لتحل محل قوة القانون والتى لوحظ بزوغها من جديد فى شكل فرد العضلات بين بعض المؤسسات وإظهار مدى قوتها فى مواجهة مؤسسات أخرى.. وحتى لا يكون حديثى مرسلاً سنضرب بعض الأمثلة كى نفيق جميعاً إذا أردنا لهذا الوطن أن ينهض من كبوته ويقال من عثرته.
فمثلاً نجد أن البعض من السادة أمناء الشرطة قد نجحوا فى فرض قانون القوة عندما استطاعوا تعديل القانون بما يسمح لهم بالترقى لرتبة الضابط، وبالفعل تم لهم ما أرادوا وانتقل الآلاف منهم إلى رتبة الضباط، وقد أغراهم ذلك فى مواصلة فرض قانون القوة إذ تُفاجأ بهم عندما يُضبط أحدهم متلبساً بارتكاب إحدى الجرائم، فإذ بهم يتجمعون ويتجمهرون ويغلقون الأقسام والمديريات بالجنازير ولا ينهون تلك الأفعال إلا بعد الإفراج عن زميلهم دون النظر إلى مركزه القانونى أو مدى سلامة الأدلة والقرائن والأفعال المنسوبة إليه. ولنا فيما حدث فى واقعة أمين شرطة مطار القاهرة خير مثال.. وكذا ما يحدث الآن فيما يتعلق باستصدار قانون الكسب غير المشروع وما صاحبه من اعتراضات بعض الجهات عليه فيما يتعلق بإخضاع أشخاص تلك الجهات لنصوصه، فوجدنا الجمعية العمومية للمحكمة الدستورية العليا إذ انعقدت فى مطلع أبريل 2015 تقرر رفض مشروع القانون فيما يتضمنه من فحص إقرارات الذمة المالية لرئيس وأعضاء المحكمة وهيئة المفوضين بها بمعرفة هيئات الفحص بجهاز الكسب غير المشروع استناداً إلى أن تطبيق ذلك يمثل انتهاكاً لحصانة أعضاء المحكمة ويعد اعتداءً على استقلاليتها واستقلال أعضائها وينال من قدرتها على العمل المجرد.
كما أن الملاحظ ما تواتر من أخبار عن أن المجلس الخاص بمجلس الدولة سينتهى إلى القرار ذاته ورفض مشروع القانون، وعلى المنوال ذاته سيكون رد فعل النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة.
نعم، فالدستور المصرى الصادر فى 2014 حدد شروطاً دستورية لاستصدار مثل تلك القوانين ومنها ضرورة أخذ رأى الجهات والهيئات القضائية قبل إصداره، لكن كان على من رفض ذلك المشروع إعطاء حلول لمحاسبة من يخرج على النظام العام أو يشوبه شائبة فى تلك الجهات.
ومثال آخر نلمسه الآن بوضوح فى تعامل بعض السادة ضباط الشرطة بالكمائن المرورية وبعض الأقسام من التعامل بمنطق قانون القوة دون النظر لقوة القانون.
الأمثلة كثيرة بين المؤسسات داخل الدولة دون الخوض فيها فهؤلاء يقيمون دعوى قضائية أمام دائرة خاصة بهم ليحصلوا على مميزات جهة أخرى رفضت هى إعطاؤهم المستندات الدالة على ما يحصلون عليه من مرتبات ومكافآت وبدلات وهكذا..
وكذا فبنك الائتمان الزراعى يتعامل مع الفلاحين والمتعاملين معه بمبدأ قانون القوة فيما يتعلق بتمويل المحصول ومقدار الفائدة وطريقة السداد دون النظر إلى أن الطرف الآخر (الفلاح) هو الأضعف فى مواجهة قوة البنك وقدرته، فرد عضلات فى شراء محصول القمح ودرجة النقاوة وطريقة السداد، فرض أماكن لاستقبال المحصول دون النظر لما يتكبده الفلاح من مصاريف لا يقوى عليها لنقل ذلك المحصول والوقوف بسيارته أياماً وأياماً فى انتظار وصول الدور إليه لتسليم محصوله وانتظاره لشهور حتى يحصل على ثمن المحصول استناداً لقانون القوة وإحلالها محل قوة القانون.
الإعلام وما يتناوله البعض منهم وقدرته على فرض الرأى وتوجيه المجتمع مستغلاً قوة التأثير الإعلامى وفرض تلك الآراء بمنطق قانون القوة لدرجة جعلت أصحاب الرأى المعتدل يتوارون ويتراجعون أمام سطوة وقوة أصحاب نظرية فرض الرأى بالقوة.
الصور كثيرة والأمثلة عديدة لا تتسع المساحة ولا يسعنا الوقت لسردها لنجد أن الثابت أن الآية قد انعكست والأمور تبدلت فأصبحت القوة فوق العدل وفوق الحق فى العديد من النماذج والصور؛ ولهذا فلا بد أن يشعر الجميع بأن للقانون قوة وأنه هو الذى سيسود وأن شريعة الغاب وقانون القوة لا مكان لهما فى ظل هذا النظام الذى يتمسك رئيسه دوماً بتلابيب القانون ويؤكد مرة تلو الأخرى أنه لا يحترم إلا القانون ولا ينحاز إلا للضعيف.
لا بد أن تكون قوة القانون هى الملاذ والملجأ لكل ذى حق وأنها هى الوحيدة التى ستجعل القوى ضعيفاً حتى يؤخذ الحق منه وأن الضعيف قوياً حتى يعود إليه حقه.
ولن يتحقق ذلك إلا إذا كان للقانون قوة ردع وإلزام ومخالب وأنياب يرتدع بها ومنها الباغون والمعتدون.
لا بد أن يتسلح القانون ويستمد قوته من قضاء رادع ومنجز، فلا بد ليد العدالة أن تكون قوية وممتدة ومحتدة على كل من يحاول بقوته اختراق القانون أو إضعافه.. لا بد أن تكون يد الدولة وبالقانون قوية على الخارجين عليها، قادرة على الإمساك بهم وتقديمهم للعدالة المنجزة والناجزة.
لا يصح ولا يجب أن تظهر الدولة أمام المجرمين والباغين ضعيفة؛ إن ضعف وارتخاء المؤسسات داخل الدولة يغرى الطامعين والفاسدين، بل إن ذلك يساعدهم ويغريهم على مواصلة البغى والتمادى فى الباطل.
ولهذا فلن تكون للدولة قائمة ولا سند ولا قوة إلا بسيادة القانون وفرضه على الجميع سواء بسواء، وفى كل مناحى الأمور، فى الشارع، المرور، فى المبانى، فى الزراعة، فى التعليم، فى الاقتصاد، وفى كل شىء.
لا يصح ونحن فى القرن الواحد والعشرين أن نجد ذلك التمييز القانونى والطبقى، فهذا يضع على سيارته نسراً وذاك يضع ميزاناً وآخر يضع طيارة، فإننا سنجد فى النهاية أن الجميع سيضع على سيارته شارة تميزه عن الآخر، سنرى من يضع دبابة ومن سيضع مدفعاً ومن سيضع فأساً لنفاجأ فى النهاية بأن هناك من يضع على لوحة سيارته حافظة نقود لتميزه عن الفقير الذى لا حول ولا قوة له.
أقولها، بصدق، يجب أن تكون مصر لكل المصريين ويكون القانون المصرى فاعلاً ومُفعّلاً على جميع المصريين بغير تمييز، ولا يجب أن يكون تقييم الفرد فى مصر بما يضعه على سيارته من شارة تميزه عن الآخرين لأنه فى هذه الحالة ماذا يفعل من لا يمتلك سيارة، وأين يعيش؟ فالوطن ليس بوتيكاً لعرض شارات الفئات المستثناة، يعيش فيه من يملك الوجاهة الاجتماعية والحظوة الوظيفية.. الوطن للجميع، الوزير والخفير، الوطن للعامل والفلاح، والمدرس والمحامى والدكتور والوزير.. الوطن لنا جميعاً بلا استثناءات أو محسوبية.
لا تفعلوا ما فعله الخليفة أبوجعفر المنصور مع ابنه جعفر.
أقولها بصدق إن هذا الشعب العظيم الذى انحاز إلى قيادته وساندها ووقف بجانبها وأمامها وخلفها ممثلة فى شخص الرئيس عبدالفتاح السيسى وتصدى بكل قوة لكل محاولات هدم الوطن وضياع مؤسساته إنما يستحق أن يحيا ويعيش عيشة كريمة، يصبح القانون فيها معبراً عن القسط والعدل، يعيش فيها الوطن فى عدل وسعادة ويعيش فيها الحاكم فى أمن واستقرار ولا يعرف قلبه ولا عقله الخوف من المجهول ولا يحتاج إلى تلك الحراسات التى تجعله أشبه بمن يعيش فى سجن من طراز خاص. مدوا يد العون للرئيس وأعينوه على غايته فى تحقيق العدل وإنفاذ قوة القانون وتجنبوا قانون القوة، حافظوا على مؤسسات الدولة واجعلوها جميعها أمام القانون سواء، فبها وعليها ستقوى الدولة وتنهض، وبغيرها ستنحدر وتندثر لا قدر الله.
وللحديث بقية ما دام فى العمر بقية.