من مقهى المنجدين.. عم عادل: راحت أيام المنجد البلدي بـ"قوسه وخرزانته"
من مقهى المنجدين.. عم عادل: راحت أيام المنجد البلدي بـ"قوسه وخرزانته"
عم عادل المنجد
على مشارف أنقاض باب من أبواب القاهرة الفاطمية القديمة، تعبر بين زحام أقدام البشر وعجلات المركبات، تتجول بعينيك في أرجاء الميدان الفسيح "باب الشعرية"، قبل أن تخطو بقدميك، تتوه في تفاصيل كثيرة، مقاه بلدية، وأفران أفرنجية، عربات فول ومطاعم للمأكولات الشعبية، دكاكين صغيرة تبيع كافة الأغراض، من "بقالة، وملابس، وأدوات منزلية، وصحية" مجاورة لورش الحرفيين التي تغزو المنطقة، تقودك عيناك نحو محل تتراص فيه "أجولة القطن" فوق بعضها، فتكرر السؤال "عايز أروح قهوة المنجدين"، يتحرى منك صاحب المحل عن السبب في تحقيق شفهي، بعدها يدلك لسكة المقهى، مسيرة على الأقدام لبضع دقائق، تمر عيناك فيها بين المحلات مرور القلم على سطور الورقة، لتقف عند نقطة، فتكتمل الجملة المفيدة عند ميدان "الظاهر بيبرس".
مقهى صغير، خلا إلا من نادله ومقاعده ورجل ستيني تلفه الوحدة، فيجلس محملقا في فراغ، يحاول قهر وحدته، بتأمل من يمرون في الشارع أمامه، أو باسترجاع شريط ذكريات أكثر من 4 عقود مضت، عندما كان يأتي "عادل" مع والده، المنجد البلدي، صبيا يحمل عدته "القوس، والخرزانة، والإبر، والخيط"، فيجلس معه وسط أبناء الصنعة، في انتظار رزق اليوم بيومه، فالمقهى عنوان صنعتهم، ووجهة الزبائن القادمين من كل أرجاء العاصمة، فهي مكتب عملهم، ومجلس يغزلون فيه حكاويهم، "ورثنا المهنة عن أهالينا الله يرحمهم، وكمان ورثنا القعدة على القهوة، كنا بنيجي هنا من أيام ما كان التورماي بيعدي من الشارع، ومن قبلها، وكانت القهوة دي مليانة صنايعية من 50 و60 سنة".
يعود "عم عادل" إلى واقعه الآن، والمقهى الخاوي من الزبائن، ويحكي كيف يقضي يومه عليه "أجي هنا أقعد من الساعة 7 الصبح، أشرب (الشاي الميزة)، ونستنى ربنا يرزق بزبون، ولو مجاش زبون، نفضل مستنيين لحد الساعة 12 الضهر، لو مجاش حد خالص نروح، وعلى كده كل يوم، اللي بنبات فيه نصبح فيه، لا لينا مكان ولا محل، ولا لينا شيخ زي الحرف التانية، القهوة هي مركزنا الرئيسي".
"المهنة كانت شغالة حلوة وكويسة، لكن لما طلع الجاهز موتها"، يتحسر الرجل، الذي كسى الشيب رأسه ولحيته، كما كسى مهنته الأصيلة، قائلا "الاختلاف بين زمان ودلوقت، إن الحاجة الجاهزة نزلت موتت الصنعة، كنا زمان نشتغل بالقوس، والخرزانة، والقطن البلدي، لكن دلوقت الناس بتسترخص، وتجيب الجاهز، اللحاف مثلا في العتبة بيتباع بـ50 جنيه، لو اتعمل بلدي هيتكلف 300- 400 جنيه، بس دي حاجة تعيش العمر كله".
حال المقهى، الآن، يصفه "عم عادل"، بـ"غير المرضي"، فالمقهى التى كان المنجدون فيها بالعشرات، صارت الآن خاوية، "دلوقت القهوة لكل الناس، مش للمنجدين بس، معدش فيه منجدين بيقعدوا عليها غيري، أنا وواحد زميلي من سني، وبيجي يوم آه ويوم لأ، حتى الزبون بقا بيجي مرة في الأسبوع، مرة في الشهر، واللي بناخده معدش بيكفينا، على عكس المنجدين في المحلات، عندهم شغل، لأن كل واحد معروف في منطقته، فالزبون بيشوف الأقرب له".
المقهى المطل على ميدان "الظاهر"، يعيش الآن في خريف العمر، ولم يبق فيه "منجدون" عند رحيل "عادل" ورفيقه عن المهنة بعد عدة أشهر، لوصولهم سن المعاش، "مستنيين الكام شهر الجايين يعدوا علشان نوصل المعاش، ويدونا قرشين نصرف منهم، هما قالولي كدة في النقابة، كل سنة أروح أدفع 25 جنيه، و12 جنيه في التأمينات شهريا، وقالولي لما تطلع معاش هنديك مكافأة، وغير كده، مش بنشوف منهم حاجة تانية"، ليبقى "مقهى المنجدين" مجرد عنوان سكن هجره أهله.