إبراهيم الشهابي يكتب: مستقبل التيار القومي
إبراهيم الشهابي
نعيش كمجتمع حصاراً فكرياً طوال الوقت بين اختيارين فكريين فرضتهما جولات وتحولات القرنين التاسع عشر والعشرين، ألا وهما تيار فكرى تفرضه حالة المجتمع الدولى ومصالحه وحتى صراعاته، ومشكلته أنه يعبّر أكثر عن تغييب للهوية الاجتماعية والثقافية والحضارية المصرية ويستخدم كأداة ضغط، ومن ناحية أخرى تيار يتخفّى تحت رداء الهوية، لكنه يمثل كل أشكال الماضوية ويرغب فى العودة بنا إلى العصور الوسطى، ثم القومى تائه ومسجون فى الأدوار الوظيفية التى صُنعت له منذ الحرب الباردة وحتى الآن، إذ انطلق فى قوميته العروبية ضمن تحالفات وهمية استخدمته بأكثر مما حالفته.
المصدر الأساسى فى متاهة التيار القومى، أنه تمسّك بالثوابت والشعارات، واستخدم الاحتجاج لتحقيقها فقط، ولم يضع إطاراً للفكرة القومية العربية بشكلها الشامل بموضوعية، وإنما اعتمد تقسيمات وتصنيفات بعضها أيديولوجى وبعضها اخترعته المزايدات بين الفصائل القومية، والتيارات القومية المختلفة على مدار القرن الماضى كله.
حوّل التيار القومى فكرة القومية العربية البسيطة والواقعية والأكثر قبولاً للتحقيق فى منطقتنا العربية، إلى نزاع بدأ بين الناصرية والبعث، ثم تحولت القومية العربية إلى احتكار لدول بعينها تستخدمها فى صراعاتها الجيوسياسية مع بعض الدول العربية الأخرى، إذ تحولت القومية العربية من حقيقة جغرافية حية وموجودة على أرض الواقع، يمكن تنفيذها عبر خطة تنموية عربية شاملة، إلى تيارات فكرية أسهمت فى تقسيمها سياسياً ونخبوياً، وتم استخدام شعارات القومية لإدارة الصراعات الجيوسياسية فى المنطقة العربية كلها. إذاً الناصرية فى جوهرها مشروع قومى يسعى إلى الاستقلال الوطنى عن خريطة الاستعمار وبنيته الاجتماعية، وهى تعبير عن مشروع الوطنية المصرية، تحول إلى حالة أيديولوجية صراعية قابلة للاستخدام والتوظيف الاستراتيجى، وتحولت فى فترة ما إلى طرف من الأطراف فى الحرب الباردة فى قلب القاهرة.
إن التحول الذى قادته ثورة يوليو 1952، لم يكن مشروعاً يسارياً، بقدر ما كان إنهاءً للبنية الاجتماعية القديمة التى ورثناها من حكم الإقطاعيات من مرحلة القرون الوسطى، إذ إن العالم كان قد ودّع مجتمع الإقطاعيات منذ بداية الثورة الفرنسية، وانتهى العالم منها بالكامل على أصداء الحرب العالمية الأولى.
استهدفت يوليو 1952 تحقيق نموذج الاستقلال عن كل تراث الاحتلال وأفكاره وتوازناته التى أدار بها الواقع السياسى والاجتماعى والاقتصادى لمصر والمنطقة العربية، وهنا جوهر التحدى الحقيقى الذى نعيشه الآن، لأن المشكلة اليوم أن جميع النزاعات الفكرية الجارية داخل مواقع النخبة السياسية المصرية، كلها محصورة فى اتجاهين.. إما ثورة يوليو 1952 وإما ما قبلها.
كانت مصر بعد استقلالها فى طليعة عملية التحرّر من الاستعمار فى المنطقة العربية، وتحمّلت مصر أعباء مواجهات الاستقلال ضد تراث الاحتلال القديم اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، تلك المواجهات كانت جزءاً من حالة الحرب الباردة فى العدوان الثلاثى 1956 و5 يونيو 1967، وفى انتصار أكتوبر 1973 حاولت مصر أن تخرج من عباءة النزاع الدولى الجارى. سقطت الحالة الحزبية دون قصد فى أجواء الحرب الباردة، وما عمّق الحالة أنه مع استعادة التجربة الحزبية تم استدعاء كل تناقضات الاحتلال مرة أخرى، فتم استدعاء القوى والتوازنات التى صنعها أو أدارها الاحتلال وأُعيد تجسيدها سياسياً واجتماعياً.
عندما تم استدعاء الإسلاميين المتطرفين لمواجهة اليسار والقوميين المتطرفين، وتبعه بفترة استدعاء التيارات الليبرالية وبعض الطبقات السياسية ما قبل 1952، كان هذا بمثابة استدعاء لكل تناقضات القرن العشرين، بكل حروبه وكوارثه إلى الساحة السياسية والاجتماعية، منذ الحرب العالمية الأولى وحتى الحرب البادرة، وتحديداً عند لحظة حرب الاتحاد السوفيتى فى أفغانستان.
أكملت مصر بهذه الثلاثية المرعبة، ليبرالى معادٍ اجتماعياً وسياسياً لمشروع يوليو 1952 وهو بالتأكيد أقرب شعورياً إلى نموذج ما قبل 1952 دون إدراك منه أنه ينتمى إلى مشروع هندسة المحتل، ويسارى من نواتج الحرب البادرة يؤمن بالشعوبية ويستدعى معها كل الصراعات الطبقية والاجتماعية -إلا من رحم ربى- وإسلامى متطرف لا يؤمن بالدولة الوطنية وتمّت صناعته لضرب نزعة الاستقلال الوطنى تحت شعارات الخلافة الإسلامية، فى الفترة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وتمت إعادة تدويره مرة أخرى ليكون ورقة فى يد الأمريكى لضرب السوفيتى وقت الحرب الباردة.
والقومى مشكلته الكبرى أنه انكسر نفسياً مع 5 يونيو 1967، ووقع فى شكل من أشكال التوظيف الاستراتيجى فى صراع بين الناصرية والبعث تارة، أو الاستخدام كمخلب قط تحت شعارات الممانعة تارة أخرى.