خيري حسن يكتب: في ذكرى رحيل الأستاذ.. هيكل وحمدان.. وعبقرية المكان والإنسان (الجيزة ـ 1992)
خيري حسن
كانت الساعة تقترب من التاسعة صباحاً من يوم خريفي منعش عندما ارتدى الدكتور جمال حمدان بدلته الرمادية العتيقة، ورفع نظارته الطبية القديمة فوق أنفه، وأغلق باب شقته خلفه (وهذه من المرات النادرة جداً) - كان يسكن 25 شارع أمين الرافعى - حي الدقي - وبدأ يترجّل على سلم العمارة بهدوء حتى لا يشعر به أحد من سكان العقار..بعد لحظات وقف أمام العمارة يمد يديه لأول سيارة تاكسي تمرق من أمامه.
من بعيد ظهرت سيارة يقودها شاب عشريني، هادئ الملامح، مدبب الأنف، أسمر الوجه. جمال حمدان قائلاً: " فندق شيراتون القاهرة / ميدان الجلاء من فضلك" (قالها بصوت هامس يُسمع بصعوبة شديدة) ثم أضاف: "من فضلك أغلق الكاسيت (كانت تتسرب منه أغنية لولاكي ذائعة الصيت فى ذلك الحين للمطرب على حميدة)وحسناً فعل السائق دون نقاش.. حالة من الصمت انتابت المشهد، وألقى الدكتور جمال حمدان من وراء نظارته ببصره إلى الشجر والبشر والحجر والشوارع الهادئة في هذا الصباح. ثم أكمل ببصره النظر إلى النيل عندما بدأت السيارة تتحرك بمحاذاة الكورنيش. السائق بعد دقائق بدأ يتعرف (أو يتوقع) على الشخصية الغامضة التي صعدت لتجلس بجواره الآن.بعد دقائق سأله: "حضرتك الدكتور جمال حمدان؟" الشاب ألقى بسؤاله سريعاً في خوف وانتظر الإجابة في ترقب.. الدقائق مرت ولم يرد.. استجمع قوته وذهنه مرة أخرى وقال بصوت متحشرج: "مش حضرتك برضه الدكتور جمال حمدان؟".. ثم بعد لحظات ارتباك قال: "أنا يا دكتور خريج كلية الآداب جامعة القاهرة قسم جغرافيا ومن المعجبين بحضرتك".
ـ هنا ابتسم جمال حمدان وقال: "اسمك أيه؟.. وفى أي عام تخرجت؟".ـ بسعادة رد الشاب: "اسمى جمال محمد عبد الصمد ـ دفعة 90 يا أفندم.. وأعرف طبعاً إن حضرتك تركت الجامعة منذ عام.. و.. و..و.."! وقبل مواصلة سرده لسيرة حياته التي يعرفها مثل الكثير غيره أشار الدكتور عليه بالسكوت.. وحسناً فعل.بعد دقائق قال الشاب: "وصلنا الميدان يا دكتور". رد قائلاً: "شكراً.. مع السلامة.. يا جمال"!"تحت أمرك يا دكتور" نزل الشاب مسرعاً وساعده (وهو لا يحتاج إلى مساعدة بالطبع) وفتح له باب السيارة.. بعد لحظات ترجّل الدكتور بخطوات سريعة ومتلاحقة حتى اتجه إلى عمارة ملاصقة للفندق.
الشاب مازال يقف مكانه في دهشة لهذه المفاجأة غير المتوقعة.. فهذا هو المفكر العظيم جمال حمدان يركب سيارته وبجواره وهو - أي جمال حمدان - الذي اعتزل الحياة ولم يعد يخرج إلى الشارع منذ عزلته الاختيارية قبل سنوات. لكن لماذا يدخل هذه العمارة على وجه التحديد؟.. هذا هو السؤال الذي دار في ذهن الشاب وقتها.
(العمارة ـ بعد 15 دقيقة) كان الأستاذ محمد حسنين هيكل ينتظر في مكتبه مستعداً لهذا اللقاء مع الدكتور جمال حمدان بعدما بدأ الاستعداد إلى كتابة "أكتوبر 73 السلاح والسياسة" ـ وهو الكتاب الرابع فى مجموعة حرب الثلاثين سنة- وهيكل يعتبر جمال حمدان "حالة استثنائية ذلك أنه تجاوز ذاته، وجاء اكتشافه الثاني لوطنه على أساس حياة وتجربة هذا الوطن مع الدنيا والتاريخ".بعد دقائق كان الأستاذ منير عساف، مدير مكتب هيكل، يستقبل جمال حمدان بترحاب شديد ويدخل به إلى هيكل على الفور.
*(أسفل العمارة ـ قبل قليل)الشاب جمال أوقف سيارته التاكسي في مكان قريب ثم عاد يسأل حارس العقار وفرد الأمن الذي يجلس بجواره.
ـ لو سمحت مَن الشخصية المهمة التي تسكن في هذا العقار؟ـ لماذا؟ـ لأن الدكتور جمال حمدان أصلاً لا يخرج من منزله ـ حسبما أعرف ـ سوى للمكتبات لشراء الكتب الجديدة وحتى متطلباته الحياتية يقوم بشرائها بواب العقار.. ثم استطرد مندهشا: "فكيف إذن ينزل في هذا الصباح من بيته ويستقل سيارة تاكسي ويأتي إلى هنا" ثم قال مستغرباً: "مَن هذه الشخصية المهمة التي تستطيع أن تجعله يكسر عاداته وعزلته ويأت إليها؟".
ـ رد الحارس بفخر: "الأستاذ هيكل.. طبعاً"!رد الشاب: "هيكل الكاتب الصحفي الكبير ذات نفسه ساكن هنا؟!.. ثم قال ساخراً: "يا لها من مصادفة غريبة وضعتني خلف مقود سيارتي التاكسي حتى يركب بجواري ذلك المفكر العظيم جمال حمدان وأن أقف الآن أمام بيت الأستاذ هيكل كاتبي المفضل"! *(المكتب ـ بعد 30 دقيقة) هيكل بعدما ترك مقعده واستقبل الدكتور جمال جلسا سوياً أمام نافذة يظهر من وراء زجاجها النيل من قريب.
بعد لحظات قال هيكل:" إذا قلنا إن المكان ليس مجرد موقع جغرافي.. وإذا قلنا إن الزمان ليس مجرد قرون تغرب شموسها أو قرون تهل مطالعها.. فكيف تفسر ما يجري أمامنا يا دكتور؟".. ثم استطرد قائلاً: "لقد حدث شىء ما لـ"عبقرية المكان" أليس كذلك؟".. هز جمال حمدان رأسه ولم يعلق، فيما واصل هيكل: "عبقرية المكان بشكل من الأشكال تبدو لي معطلة هنا..".. بعد لحظات من الصمت سأل دكتور حمدان:" قل لى عن ماذا كتابك القادم".
رد هيكل: "كتابي الجديد هو جزء من مجموعة عنوانها حرب الثلاثين سنة وهو يركز على معركة العبور".ـ من أى زاوية أو منطق؟ـ من منطق يفرق ما بين الحرب والقتال. فالحرب صراع سياسي بكل وسائل القوة في حين أن القتال مرحلة معينة من الحرب يكون فيها الاحتكام الى السلاح.
بعد فترة صمت سأل جمال حمدان:- كنت تسألني عن عبقرية الجغرافيا والتاريخ التي صنعت عبقرية المكان!ـ يبتسم هيكل وهو يقول: "هذا على حد تعبيرك"؟!يعتدل جمال حمدان في مقعده ويلقى ببصره إلى النافذة (يبدو أنه يريد الوصول ببصره إلى النيل) ثم يقول: "إن حركة التاريخ دائمة.
ولكن اتجاهها ليس ثابتاً.. وكان عهدنا بها أن تكون إلى الأمام خطوتين وإلى الوراء خطوة.. لكننا الآن - كان هذا عام 1992 - نرى بُعداً مغايراً؛ نرى حركة إلى أسفل"!.. قال ذلك ثم سكت فيما قام هيكل من أمامه وجلس إلى مكتبه وألقى هو الآخر ببصره إلى الشرفة التى مازالت ترسل لهما شعاع الشمس مع نسمات الربيع القادمة من ضفاف النهر المواجهة للبناية.
في هذا اللقاء حاول هيكل إقناعه بالخروج من العزلة والعودة إلى الناس.. يقول هيكل: " حاولت ولم يقتنع مصراً على أنه اعتزل وحركة التيار إلى الأمام.. فكيف يعود والحركة معاكسة سواء إلى الوراء أو إلى الأسفل"!.
*(أسفل العمارة ـ بعد 120 دقيقة) إلى بهو العمارة نزل الدكتور جمال حمدان مصحوباً بساعى مكتب هيكل بعدما نبه عليه (منير عساف) باصطحابه حتى باب الخروج.أمام العمارة يقف جمال حمدان (الحارس وفرد الأمن انتبها لوجوده) الساعي يستدعى السائق الخاص بالأستاذ هيكل ـ حسب التعليمات ـ للعودة به إلى منزله.
السيارة جاءت مسرعة وقبل أن ينزل السائق من مقعده ليفتح بابها للدكتور كانت الأرض قد انشقت وظهر منها الشاب جمال وهتف قائلاً: "والله ما حد يوصله لحد بيته إلا أنا" قال ذلك وهو يقتحم المكان بقوة وعزم وتصميم.
- ابتسم جمال حمدان وهو يقول: "نعم.. سأعود معه.. بلغوا تحياتى للأستاذ.. مع السلامة".
*(التاكسي ـ بعد 10 دقائق)ـ " الجامعة أخبارها أيه يا جمال"؟ ـ جامعة أيه بقي يا دكتور؟. هو بعدك فيه علم ولا جغرافيا ولا حتى تاريخ!.. قالها وهو يضحك بعدما ضغط بهدوء على الكاسيت الذى بدأ يتسرب منه صوت أم كلثوم (وهى من الأصوات التي يحبها جمال حمدان) وبدأت تغني: "فات المعياد.. وبقينا بعادوالنار..بقت رمادوتفيد بإيه يا ندم وتعمل آيه يا عتاب" بعد دقائق توقفت السيارة أمام بيته، فيما حاول الدكتور دفع الأجرة للسائق الذى رفض رفضاً تاماً وهو يقول: "طيب يا ريت تخرج كل يوم يا دكتور وأنا أجاي لحد عندك وأوصلك ببلاش"!
*(منزل جمال حمدان ـ 1993)بعد عام تقريباً من هذا اللقاء رحل الدكتور جمال حمدان وهو - كما يقول هيكل - "العالم المتميز فى آفاق الفكر العربي كطائر العنقاء الأسطوري".. كان جمال حمدان "عنقاء" حلم مصري وقومي عظيم - حسب وصف هيكل - وفارقنا - ورحل / أو قُتل - دون أن يعرف هيكل "إنه فراق إلى الأبد"! ولقد حدث هذا الفراق بعدما عاش (جمال حمدان) وكذلك هيكل - حتى إن اختلفت معه سياسيًا - عاش مهموماً ومشغولاَ "بشخصية مصر وعبقرية مكانها.. تلك العبقرية التى وصفها هيكل بأنها عبقرية " الموقع والموضع".----------------- خيري حسن
الأحداث حقيقية.. والسيناريو من خيال الكاتب.
المصادر: كتاب: شخصية مصر.. دراسة فى عبقرية المكانجمال حمدان - طبعة الهلال
أكتوبر 73 السلاح والسياسة.. محمد حسنين هيكل.طبعة الأهرام ( مركز الترجمة والنشر)