«أبوحشيش»: ميراث البلطجة يطارد الأحفاد
عشش وبيوت متهالكة، تشطرها ممرات عشوائية ضيقة، لا تعترف بالخصوصية التى تتميز بها العمارات القديمة ذات الطراز المعمارى الفريد، التى يفصلها عن عزبة أبوحشيش، قضبان مترو الأنفاق.. عدد سكان المنطقة 15 ألف نسمة، وفقاً لرئاسة حى حدائق القبة، معظمهم وافدون على المنطقة، لأسباب يحددها محمد فهد، المقبل من محافظة الفيوم والمقيم بالعزبة منذ 9 سنوات «كل المقيمين هنا جاءوا وراء لقمة العيش»، حيث تعتبر الروبابيكيا من أبرز الأنشطة التجارية التى تشتهر بها العزبة وتضم أروقتها العديد من المخازن لفرزها وإعادة بيعها من جديد، يعمل بها وفقاً لـ«فهد» أكثر من 5 آلاف شخص سواء من أهالى المنطقة أو خارجها، لكنهم فى النهاية يأتون إلى العزبة لبيع ما عندهم أو ما استطاعوا تجميعه إلى التجار الكبار داخل المنطقة، يؤكد الشاب الثلاثينى أن كل هؤلاء ليسوا متهمين فى أى قضايا، ومع ذلك ينظر لهم الناس على أنهم بلطجية لأنهم يعملون أو يقيمون هنا.
العزبة مقسمة إلى مناطق كل تجمع خاص بأبناء محافظة واحدة «هنا كلنا فيومية» فى إشارة إلى قدومه من محافظة الفيوم، ويشير عبدالرحيم حسن بسبابته إلى البنايات القابعة بالقرب من قضبان قطار السكة الحديد، الذى يشطر العزبة إلى نصفين، يتجمع فيها أبناء محافظة المنيا وأسيوط، هؤلاء لا يوجد عليهم غبار بشهادة الجميع، بحسب «عبدالرحيم»، بمن فيهم ضباط قسم الشرطة، بينما من يسىء إلى المكان من وجهة نظره، ويتسبب فى تشويه المكان هم «الغجر» الذين يقبعون فى نهاية العزبة أسفل كوبرى أكتوبر، وغيرهم ممن يعملون فى صناعة البمب وقنابل المونة، التى أصبحت مصدر دخلهم الوحيد.
«البلطجة» هى الوصمة التى لا تفارق أهالى أبوحشيش منذ أكثر من عشرين عاماً، ليصبح من تحمل بطاقته الشخصية هذا الاسم، خارجاً على القانون من قبل الأجهزة الأمنية، ومشبوهاً بالنسبة لعشرات المئات من البشر الذين يتعاملون معهم يومياً، كما يقول فتحى عواد، المقيم بالمساكن التى تقع فى مدخل العزبة، وهو ما دفعه إلى إخفاء محل إقامته على مدار 4 سنوات، هى عمر دراسته بكلية التجارة جامعة القاهرة، يتذكر الشاب الذى لم يتجاوز العقد الثالث من العمر أحد المواقف التى حدثت أثناء دراسته، حيث طلب منه أحد أصدقائه أن يأتى إليه لكى يستعير منه كتاباً، وعندما أخبره بأنه خارج القاهرة، طلب منه أن يذهب إلى البيت ويأخذ الكتاب من أحد أفراد الأسرة، ويقول فتحى «أول ما قلت له عزبة أبوحشيش رفض الذهاب إلى العزبة رغم إصراره على الحصول على الكتاب قبل معرفة مكان إقامتى، وبعدها تغيرت معاملته معى تماماً، وبدأ ينسحب من حياتى بصورة غير مباشرة، فلو تقابلنا صدفة فى الجامعة يتجاهلنى».
«صوابعك مش قد بعضها وكل مكان فيه وفيه» بهذا المثل الشعبى تحدث «أبوالدهب» عن مكان إقامته، موضحاً أن ما يحدث داخل العزبة يشبه ما يحدث فى أى مكان شعبى فى مصر، لكن السمعة السيئة المأخوذة عنا ترجع إلى تناول الإعلام وجهة النظر السلبية لما يحدث فى المكان، بالإضافة إلى صناعة البمب التى تشتهر بها المنطقة، يستخدم فى الاشتباكات التى تحدث بين أهالى العزبة مع أشخاص من خارجها، هذا يحدث مع فئة محدودة جداً «شباب شايفين نفسهم» على حد وصفه، لكن الأهالى هنا «كل واحد فى حاله» ولا يهتم بغير عمله، وأكل عيشه وبس.
الصورة الذهنية السلبية عن أهالى العزبة دعمتها السينما المصرية فى العديد من أفلامها كما حدث فى فيلم حين ميسرة، وفقاً لـ«وائل نصار» أحد المقيمين بها، واصفاً ما تناوله الفيلم بغير حقيقى، لا يعبر عن الأهالى وما يحدث هنا، وكل ما حدث أن فريق عمل الفيلم قام بتصوير مدخل العزبة فقط من ناحية شارع بور سعيد، هذا ما حدث على أرض الواقع، بينما باقى مشاهد الفيلم خيالية ولا تحدث بهذه الصورة الفجة التى نقلها الفيلم، وتكررت نفس الصورة السلبية مؤخراً، حيث ظهر برومو الفيلم باسم العزبة «أبوحشيش»، وهو ما دفع الأهالى إلى التظاهر وغلق شارع بورسعيد، وتم رفع قضية لوقف الفيلم، وهو ما حدث بالفعل لأنه كان يستهدف الإساءة إلى أهالى العزبة. 90% من أهالى العزبة التى تدخل ضمن 17 منطقة عشوائية فى القاهرة الكبرى يعيشون تحت خط الفقر، لم يتناول الإعلام المشاكل الاجتماعية وانعدام الخدمات داخل المنطقة بقدر ما تم تسليط الضوء على أنها منطقة إجرامية، وهو ما دفع محافظة القاهرة إلى تخصيص 17 مليون جنيه لتطويرها، لكن الأهالى يعبرون عن خوفهم ألا يتجاوز هذا التطوير حدود التصريحات الإعلامية، ففى حوارى أبوحشيش، كما يقول طارق سعد أسرة تستأجر غرفة فى بيت واحد ويستخدمون حماماً مشتركاً، بخلاف العشرات الذين ما زالوا يقيمون فى أكواخ من الخشب أو الصفيح، مؤكداً أن هؤلاء أولى بهذا التطوير وتوفير سكن آدمى لهم.
سعيد فتوح، صاحب ورشة ألومنيوم تقبع فى مدخل العزبة من جهة شارع بورسعيد، يرى أن الانطباع السائد لدى الناس عن مكان إقامته وعمله يتسبب له فى كثير من الإحراج، فعندما يريد أحد الزبائن الاتفاق على عمل الألومنيوم لشقة أو محل، يخاف أن يترك «عربون»، «لو تأخرت عليه يوماً لا يتوقف عن الاتصال، لاعتقاده بأنه من الممكن أن يتعرض لعملية نصب، وأنا أشعر بذلك من طريقة تعامله معى، بيكون خايف أنى أسرقه، لدرجة تدفعنى أحياناً إلى طمأنتهم مباشرة بأننا هنا مش حرامية ومش هنسرقهم»، لكن يظل الخوف فى صدورهم حتى يتم الانتهاء من تركيب الأبواب والشبابيك»، يصمت الرجل لبرهة يقطعها بقوله «إحنا زى البشر فى كل مكان بنشتغل علشان ناكل بالحلال».
نفس الخوف يتكرر مع سائق التاكسى، كما يروى محمد نصار، «أى سائق تاكسى يخشى دخول العزبة حتى لو هياخد ضعف المبلغ»، كما حدث معه يوم مرض زوجته، اتصل بالإسعاف لم تأت إليه وتم نقلها فى سيارة ربع نقل إلى مستشفى سيد جلال، بعد خروجها ورغم آثار المرض الواضحة وحالتها المرضية، كان أى تاكسى يرفض دخول العزبة لاعتقاده أنها مؤامرة من أجل سرقة السيارة، فى النهاية اضطر لأخذ تاكسى إلى شارع بورسعيد، والاستعانة بسيارة أحد معارفه لنقلها إلى البيت.