التجربة الألمانية.. دولة عواجيز «سناً» يحكمها شباب «فعلاً»
«لم يكن الشباب الأوروبى أكثر ثقافة وتعليماً مما هو عليه الآن، نحن نريد أن نستفيد من هذا الشباب المتعلم فى العمل والعلم»، بهذه الكلمات دشن مارتن شولتز، رئيس البرلمان الأوروبى، حملته الانتخابية العام الحالى وعلى النهج نفسه كان شعار حزب الخضر الألمانى لانتخابات عام 2013 و2014 «أوروبا.. لا تنسى شبابك» هذه الشعارات أتت ثمارها فى أوروبا وألمانيا على وجه التحديد، فأصبح الشباب فيها، بهمومه ومشاكله وطاقاته وإسهاماته، يحتل دائماً مكانة متقدمة على أولويات الأحزاب والعمل السياسى فيها.
حالة الشباب فى ألمانيا تحديداً تثير الاهتمام، فعلى الرغم من أن ألمانيا تعتبر دولة «عجوز» يرتفع فيها معدل الأعمار عن متوسط العمر الافتراضى للإنسان فى العديد من الدول، وبها أكثر من 22 مليون فرد تخطوا سن «المعاش» ويعد الشباب فيها أقلية، فإن ذلك دفعها للحرص على تمكين الشباب فى السياسة والعمل العام، وعلى تجديد دماء السياسة من خلال تمكين الشباب، ووضعهم فى صدارة قوائم الأحزاب، دون اشتراط ذلك بشكل قانونى، كما يرى محمد هريدى، الباحث السياسى الدارس بجامعة أوسنابروك بألمانيا فى اتصاله مع «الوطن»، ويرى «هريدى»، أن تقلد الشباب للمناصب الحزبية والوزارية فى ألمانيا الذى تزايد بشكل ملحوظ أخيراً، هو أمر مرحب به من جانب الشعب، الذى يتقبل الشباب ويحرص على مشاركتهم دون اللجوء لأنظمة «الكوتة» التى يعتبرونها غير دستورية وغير ديمقراطية.
«الانتخابات» ليست الوسيلة الأولى ولا الوحيدة التى يصل بها الشباب لتولى المناصب السياسية فى ألمانيا، فالشباب الألمانى ينخرط فى الأحزاب منذ بداية مرحلة المراهقة، ويمكنه نظام التعليم والاطلاع واتساع الأفق من تكوين خبرة سياسية سريعة، تؤكد كفاءته فى الحياة العامة، وتجعله جزءاً فاعلاً فى الحياة السياسية الألمانية منذ سن مبكرة.
ظهر ذلك مثلاً، فى الحكومة الألمانية السابقة، التى وزعت فيها ثلاث حقائب وزارية مهمة على وزراء دون الأربعين من عمرهم، كرستينا كوهلر وزيرة الأسرة، التى كان عمرها «٣٢ عاماً»، وكارل تزوجوتينبيرج «37 عاماً» الذى تولى منصب وزير الدفاع، وفيليب رويسلير الذى أصبح وزيراً للصحة ثم وزيراً للاقتصاد ونائباً للمستشارة «أنجيلا ميركل» وزعيماً للحزب الليبرالى الحر قبل أن يتجاوز السادسة والثلاثين من العمر.
«الشباب» لا يحتل مناصب القيادة فى الحكومة الألمانية فقط، فالبرلمان الألمانى أيضاً يمتلئ بالوجوه والدماء الشابة من مختلف التيارات السياسية، بما فيها تلك المعارضة للحكومة كما يرى «هريدى».
فى الدورة البرلمانية الحالية، كان هناك برلمانيون شباب قد وجدوا طريقهم للقبة الزجاجية، مثل كاتيا دورنر، نائبة رئيس ائتلاف الخضر المعارض من مواليد عام ١٩٧٦ وعضو البرلمان الألمانى «البوندستاج» منذ عام ٢٠٠٩، وفى الحزب الاشتراكى الديمقراطى نجد ميشائيل روث من مواليد عام ١٩٧٦ وهو وزير مفوض للعلاقات الفرنسية الألمانية ومرشح لشغل منصب الخارجية بعد الوزير الحالى «فرانك شتاينماير». ويحتل مواليد الثمانينات أيضاً مكاناً بارزاً فى البرلمان الألمانى، الذى شهد بزوغ نجم أنالينا بايربوك، المتحدثة باسم حزب الخضر فى شئون البيئة والمناخ فى البرلمان، رغم أنها لم تتجاوز الـ34 من عمرها، وكاى فيتاكير، الوجه المؤثر فى اللجنة الاقتصادية البرلمانية رغم أن سنه لا تزيد على 29 عاماً، ويضم البرلمان الألمانى الحالى أصغر برلمانى ألمانى على مر التاريخ وهو محمود أوزدمير صاحب الـ٢٦ ربيعاً».
قوة مشاركة الشباب فى الحياة السياسية الألمانية ليست إيجابيات كلها، هناك بعض السلبيات التى نتجت عن هذه المشاركة، وبالنسبة لـ«هريدى»، فإن أبرز سلبيات مشاركة الشباب فى الحياة السياسية الألمانية تتجلى مثلاً فى حزب مثل حزب «القراصنة». هذا الحزب الذى وصل أعضاؤه لبرلمان ولاية شمال غرب نهر الراين دون أن يمتلك كوادر مؤهلة أو رؤية سياسية أو برنامجاً واضحاً، لكنهم يركزون على حرية تبادل وتدفق المعلومات وتقليل دور الدولة والشركات متعددة الجنسيات فى التحكم فى المعلومات ومصادرها. ظهر قصور الحزب، وعدم كفاءة عناصره، عندما نجح «شباب» الحزب فى الدخول إلى البرلمان، لكنهم لم يقدموا مساهمة فاعلة فيه. وفى جلسات مناقشة ميزانية الولاية مثلاً، لم يقدموا رؤية واضحة ولا تعديلات مفهومة، بل ظلوا يسخرون من باقى أعضاء البرلمان من خلال حساباتهم على «تويتر» و«فيس بوك» ويبدون ضجرهم من الجلسات الطويلة التى ظهر أنهم غير مهتمين بها من الأساس، وكان من الواضح أن هؤلاء الشباب غير قادرين على التفاوض بسبب نقص خبرتهم السياسية وعدم اهتمامهم بتطوير أنفسهم.
ولأن الآلة السياسية الألمانية قادرة دائماً على الفرز، وعلى تصحيح مساراتها، تمت الدعوة إلى انتخابات جديدة، وخرج حزب «القراصنة» الشباب هذه المرة منها خاسراً، دون أن ينجح فى الوصول إلى العتبة الانتخابية أو نسبة الـ٥٪ فى انتخابات «البوندستاج» (البرلمان الألمانى) وانتهت تجربة الحزب الشاب بالفشل.
قوة مشاركة الشباب الألمانى فى الحياة السياسية لا تعنى انفصالهم عن تجارب السابقين، أو هدمهم لما أسسه آباؤهم، بل ربما كان العكس هو الصحيح، يقول المركز الألمانى للإعلام التابع لوزارة الخارجية الألمانية، إن الشباب الألمانى لا يميل بطبيعته إلى الفردية والعزلة والاستقلال عن الأسرة، إذ إن المرجع الرئيسى لجيل الشباب حالياً هو الأسرة، إذ يعيش حالياً 81% من الشبان و71% من الفتيات الذين لا يتجاوزون الـ21 من العمر فى منزل الأسرة، وهى السن التى يكون فيها باقى الشباب فى الدول الأوروبية الأخرى قد غادروا منازل أهلهم قبلها بوقت طويل.
أحد أسباب بقاء الشباب الألمانى فى بيوت أسرهم حتى سن متأخرة يكمن فى حرصهم على رفع مستوى تأهيلهم الدراسى والعلمى، وبالمقارنة مع أجيال الشباب السابقة، فقد أصبح الشباب الألمانى أكثر واقعية وعملية وميلاً للتجريب.
وفى الوقت الذى ترى فيه العديد من الدراسات أن غالبية الشباب الألمانى يحتفظ بعلاقات جيدة مع أسرته، يشير الأمر الواقع إلى تحسن علاقة الشباب الألمانى بالديمقراطية، الأمر الذى يجعلهم أكثر مرونة من أجيال الشباب فى العديد من الدول الأخرى، وسط الجدل السائد فى ألمانيا بين اليمين واليسار يميل جيل الشباب إلى اليسار، كما هو مألوف عنهم، إلا أنهم نادراً ما يتشبثون بمواقف سياسية متشددة، وبالمقابل فإن جيل الشباب على استعداد كبير للالتزام والمشاركة فى الحياة الاجتماعية، التى لا تقل فى نظره أهمية عن الحياة السياسية، إذ يسهم حوالى ثلاثة أرباع الشباب فى نشاطات واهتمامات تتعلق بالبيئة والمجتمع، من الاهتمام بكبار السن الذين يحتاجون للرعاية، إلى حماية الطبيعة والحيوانات، ومن مساعدة الفقراء إلى الاهتمام بالمهاجرين الأجانب وبالمعوقين. وبالمقابل يخف اهتمامهم بالسياسة والأحزاب المختلفة والنقابات. ولا تتجاوز نسبة المهتمين بالسياسة من أبناء 12 حتى 25 سنة 30%، بينما ترتفع بين صفوف البالغين الشباب لتصل إلى 44%، كما تصل بين صفوف الطلبة إلى 64%.
شىء ما فى «طبيعة» وعقلانية الشباب الألمانى تساعدهم على النجاح، ويوضح الباحث الألمانى بيتر مارتين توماسان فى دراسة له أن الشباب الألمانى مثل أى شباب آخر يجد نفسه تحت ضغوطات مجتمعية، ولديهم مخاوف وهواجس من المستقبل، خاصة عند الحديث عن «الوضع المالى» أو «فرص العمل» إلا أن الشاب الألمانى يدرك أنه على استعداد لتقليل «نشاطاته» ومرحه فى أوقات الفراغ، لصالح تحقيق مساره المهنى، وأن يتأقلم على التغيرات والتحولات التى يمر بها مجتمعه وظروفه، حتى تصبح أحلامه قابلة للتحقيق.
ملف خاص
بروفايل| جابرعصفور.. ثقافة «الكرسى»
السلم الوظيفى: ممنوع الصعود