«الوطن» على أول سفينة مصرية لنقل العالقين: حكايات الذل والفقر
«أنت مصرى؟»، سأل «محمد» ابن السابعة عشرة.. وبمجرد أن رد عليه الضابط البحرى المسئول عن السفينة عايدة «نعم»، أجهش فى البكاء، وقال «قول لمصر ماتبهدلناش تانى، كفاية إحنا تعبنا». كان أكثر من 250 شاباً مصرياً يقفون فى صفوف متراصة فى انتظار السماح لهم بالصعود إلى السفينة «عايدة» التابعة لهيئة السلامة البحرية، التى أرسلت إلى ميناء جرجيس شرقى تونس صباح أمس، للمشاركة فى الجسر الجوى والبحرى لنقل المصريين العالقين عند منفذ رأس جدير الحدودى بين تونس وليبيا..
هنا الحكايات كلها تحمل الألم نفسه، والمعاناة نفسها، والظلم نفسه، بجوار حائط بالميناء جلس «محمد» وجفّف دموعه التى انسالت على خديه رغماً عنه، وقال: «اضطرتنى الظروف الصعبة وقلة الحيلة لأن أترك بلدتى فى المنيا للعمل فى مطعم بمدينة «سبراته»، فى البداية كانت الأمور تسير بشكل جيد، ثم أصبحت منذ رمضان الماضى شديدة الصعوبة، كان أعضاء الميليشيات يدخلون علينا فى البيوت ويضربوننا ويسرقون كل ما نملك، وفرضوا حظر تجوّل على كل المصريين، ومن يخرج من مسكنه تتلقفه العصابات، وإما أن يتم سرقته والاعتداء عليه بالضرب، وإما احتجازه، وطلب فدية لإطلاق سراحه».[FirstQuote]
تسجيل اسماء العائدين
محمود فوزى حداد من المنيا تدخل فى الحوار منفعلاً: «اللى شفناه هناك مش ممكن حد يشوفه»، حاول زملاؤه تهدئته ليحكى لنا فصلاً آخر من فصول المعاناة: «أعمل فى مدينة (قربوزة) ناحية الزاوية التى اشتد القتال بها، وكانت القذائف تسقط على البيوت، بالإضافة إلى المعاناة من بلطجة العصابات الليبية المسلحة، وإذا خرجت من بيتك فأنت ذاهب إلى المجهول، إما أن تُسرق وإما يتم اختطافك أو قتلك»، صمت الرجل قليلاً وتذكر متألماً: «عندما ساءت الأمور قررت أن أغادر لتبدأ رحلة أخرى من العذاب، كنا هدفاً لقطّاع الطرق، وأكثر من مرة يتم وقف السيارة التى كانت تقلنا، أخذوا كل الأموال التى كانت لدينا لتكتمل الخسارة، وعندما هربت تركت ورائى كل ما أملك، حوالى 6 آلاف دينار، والباقى أخذوه منى فى الطريق، حتى وصلت إلى المعبر لتبدأ رحلة مختلفة من العذاب، وتم إطلاق النار علينا أكثر من مرة، وانهالت القذائف فوق رؤوسنا، وتم الاعتداء علينا بالضرب بأعقاب البنادق والعصى». «الظروف عندنا صعبة، وكنت عايز أتجور، بس أعمل إيه، أمر الله»، قال الجندى قطان ابن مدينة سوهاج، الذى سافر إلى ليبيا منذ 9 أشهر من أجل إتمام زواجه المتعثّر بسبب ضيق ذات اليد: «راحت الـ5 آلاف دينار تحويشة العمر مصاريف الزواج، ورجعت بالملابس التى ارتديها، حتى الـ500 دينار اللى كانت حيلتى أخدوها منى فى الطريق» صمت ونظر إلى الأرض بانكسار وحسرة، ثم أضاف وكأنه يُعزّى نفسه: «أنا شفت الموت، الحمد لله إنى رجعت». ومن بين عشرات البسطاء جرى نحونا موسى محمد ابن مدينة مغاغة بالمنيا، طالباً أن نساعده، وقال ولسانه يلهث «الحقوهم هيقتلوهم هناك». وأشار بيديه فى اتجاه الحدود، مضيفاً: «ولاد عمى الأربعة اختطفوهم أمام المعبر ومش عارف أعمل إيه» قطع كلامه ليتسلم وجبة وعصير وزجاجة مياه تم توزيعها من طاقم السفينة على الركاب، نظر شاكراً إلى الرجل الذى ناوله الطعام وقال له لم أتناول الطعام منذ يومين، ثم أكمل كلامه معنا: «كنت أعمل أنا وأولاد عمى فى «جنزورة»، وهى قرية تابعة لطرابلس، وعندما اشتدت الاشتباكات بين الليبيين هربنا باتجاه الزاوية دون أى أموال، عملنا لأسبوع واستطعنا جمع أموال تكفى لتذكرة السفر، ولكن عندما وصلنا إلى المعبر الليبى، تم الاعتداء علينا بالضرب وكان الزحام شديداً، [SecondQuote]
مصرييون على الحدود التونسية هربا من جحيم ليبيا
فعاد أولاد عمى خوفاً واستقلوا سيارة عادت بهم إلى الزاوية، ولكن ما حدث هو أن بعض أفراد الميليشيات المسلحة اختطفوهم واتصلوا بى، طالبين 15 ألف دينار للإفراج عنهم، لكننى لا أملك هذا المبلغ، ولم أخبر أسرهم ولا أعرف ماذا أفعل الآن، وعندما ذهبت للإبلاغ فى قسم الشرطة اعتدوا علىّ بالضرب». حمل أحمد عبدالصبور ابن الـ18 سنة شنطة السفر فوق رأسه وتوجه ليسجل اسمه للصعود إلى السفينة، وحصل على بونبونى وشيكولاتة وزّعتها عليهم بعثة الخارجية الموجودة بالميناء، [ThirdQuote]
وقال لـ«الوطن»: «أنا من محافظة المنيا وأعمل فى ليبيا منذ سنة لمساعدة أسرتى، لكنى رأيت الموت أمام عينى كأننا فى جهنم، وكنت أعمل فى جربوزة بالقرب من الزاوية، وهناك رأينا كل أنواع الضرب والإهانة فقط لأننا مصريون، كما قال لنا أحدهم، والغريب أننا لم نجد أى هجوم على أى جنسية أخرى، رغم وجود أفارقة وأجانب، لكن الإهانات والضرب والاعتداء كان على المصريين فقط».