على مدار 72 ساعة ظلت النار هائجة، تنتقل من طابق إلى طابق دون أن تستطيع قوة إطفائها، العقار المشتعل تسبب في حالة شلل عام ليس في محيطه فحسب، بل في كل طريق وإشارة مرور، المسافة التي يمكن قطعها في نصف ساعة، باتت تحتاج لأكثر من ثلاث ساعات، الكثيرون تناولوا وجبة غدائهم، وربما العشاء أيضاً، على الطريق. الأمر بدا كأننا لسنا أمام حريق عادي نشب في عقار، وراء الحريق ما هو أخطر من ذلك!
في مثل هذه الأيام قبل عشر سنوات، كان نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، رحمة الله عليهما، يعيش أيامه الأخيرة بعد نحو 30 عامًا من الحكم. رحل مبارك، ورحل من معه، لكن مخلفات النظام العتيد ظلت عصية على الرحيل، لم يسدل الستار عليها بقرار تنحي ولا «مليونية» ولا «تعديل دستوري».. عقار الدائري المحترق، وغيره من العقارات المخالفة على طول الطرق وأطراف المدن، واحد من هذه المخلفات التي جنتها مصر من حقبة كانت مرتعًا للفساد وعدم المحاسبة وغياب القانون.
العقار الذي بناه صاحبه في غفلة عين على مساحة ألف متر داخل «حضن الدائري»، بعد سنوات الفوضى من 2011 إلى 2014، لم يكن إلا ترجمة للفوضى التي عاشتها مصر لأكثر من عقد قبل هذا التاريخ. «الفوضى المقننة» مدفوعة الرسوم وكاملة الأختام التي كان يشارك فيها الجميع عن قناعة ورضا نفس وراحة ضمير، من «بائع الأحذية» حتى المسؤول الكبير!
ليس العقار استثنائيًا، وليست الحريقة التي تحدثت عنها كل مصر مجرد «قضاء وقدر» أو حتى جريمة ارتكبها فرد أو مجموعة أفراد. الصورة الحقيقية أكبر من ذلك، مشهد «عقار الدائري» جزء من التركة الصعبة التي تركها مبارك وحكوماته، التركة التي أُهملت لثلاثة عقود واستلمتها مصر بعد «يناير ويونيو» وما بينهما من سنوات سيولة، تركة المباني المخالفة والبنية التحتية المتهالكة والفساد المقنن والأفق المحدود والإرادة الغائبة والشعور بالكسل والبلادة والتكيف مع أسوأ الأوضاع الممكنة.
برغم من قسوة مشهد النار، الذي رأيته بعيني من نافذة السيارة، ورآه كثيرون، إلا أنني لم أتعاطف لحظة، سواء مع صاحب العقار المخالف، أو السكان الذي دفعوا واشتروا، أو مع من سمح لهذا وهؤلاء بالبيع والشراء. هذه الدائرة الصغيرة ليست إلا ملمحًا من ملامح نظام قديم استحق أن يرحل، ولم يعد له مكانًا الآن!