"الخداع الاستراتيجي" : مصر استعدت لـ"الحرب" أمام أعين "مخابرات العالم"
«السادات» فى غرفة عمليات حرب «73»
فى أبريل 1973، جاء الرئيس السورى الراحل حافظ الأسد إلى مصر فى زيارة سرية، واجتمع مع الرئيس الراحل أنور السادات، والمشير محمد عبدالغنى الجمسى، رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة فى هذا الوقت، وقال إن المواعيد الثلاثة المناسبة لحرب إسرائيل هى فى مايو 1973، وأغسطس وسبتمبر، وفى أكتوبر من العام نفسه، وكان أنسبها أكتوبر حتى تكون الجبهتان المصرية والسورية جاهزتين حتى يعقد الجانبان العزم على الحرب.
وبدأ الرئيس الراحل أنور السادات فى تنفيذ خطة لـ«الخداع الاستراتيجى»، حيث شن حملة فى الإعلام المصرى، ولدى قوات الدفاع الشعبى والعسكرى، حينما روى فى مذكراته وشهاداته المختلفة عن حرب أكتوبر، بأننا سنحشد جيوشنا فى الوقت المناسب والأيام المناسبة، وحشد الإسرائيليون أنفسهم وكنا فى استرخاء تام.
وتكرر الأمر فى أغسطس 1973، وكان رد فعل الجانب الإسرائيلى هو إعلان «التعبئة العامة»، وقال السادات فى إحدى شهاداته: «حينما سئل موشى ديان بعد حرب أكتوبر عن سر عدم إعلانه التعبئة العامة فى أكتوبر، قال إن السادات قد دفعنى إلى هذا مرتين مما كلفنى فى كل مرة 10 ملايين دولار دون جدوى، فلما جاءت المرة الثالثة ظننت أنه غير جاد مثلما حدث فى المرتين السابقتين، لكنه خيّب ظنى.
الخطة تضمنت إخلاء المستشفيات بدعوى"التلوث" لتوفير أماكن للجرحى.. ونقل ورش التصليح للجبهة ودفع الدبابات إليها بحجة الأعطال
وحسبما روى المشير أحمد إسماعيل، وزير الحربية خلال حرب أكتوبر المجيدة، وقادة الحرب ووزير الخارجية الأمريكى وقت الحرب فى مذكراتهم؛ فإن الرئيس السادات كان حريصاً فى تخطيطه الاستراتيجى على أن يخفى أى علامات للاستعداد للحرب لتجنب رد الفعل الإسرائيلى بتنفيذ ضربة استباقية للعبور بغرض إفشاله، وهو ما نجحت مصر فيه.
وتحركت مصر وقتها لتجهيز «الجبهة الداخلية للحرب»، وهو ما كلف الدولة ما يزيد على 100 مليون جنيه وقتها حسبما صرح الرئيس الراحل أنور السادات، والتى تضمنت تعتيم المخزون الاستراتيجى للبلاد بالقمح، مع تسريب «فضيحة إعلامية» عن إغراق أمطار الشتاء لصوامع القمح. وتضمنت خطة التخطيط الاستراتيجى للحرب، أيضاً، تسريح ضابط طبيب من الخدمة ليعلن وجود تلوث بالمستشفيات، لتُخلى المستشفيات لتوفير أماكن للجرحى والمصابين فى المعركة تحت بند تطهيرها من التلوث، ووصل الأمر إلى تهريب صفقة كبيرة من المصابيح فى أحجام مختلفة، ليلقى ضباط حرس الحدود القبض عليها.
كما لجأت القوات المصرية لنقل ورش التصليح إلى الخطوط الأمامية لجبهة القتال، ودفع الدبابات فى طوابير بحجة إصابتها بأعطال، وتسريب تقرير بحاجة مصر لمطاط، ثم تركها بإهمال فى ميناء الإسكندرية فى ظل إجراءات توحى بعدم الأهمية حتى نقلت نصف الكمية إلى حلوان بسيارات عسكرية، والنصف الآخر لجبهة القتال عبر سيارات مدنية.
كما تضمنت الإجراءات اختيار توقيت الهجوم فى يوم عيد الغفران اليهودى، وهو يوم إجازة رسمية إسرائيلية، مع الإعلان عن زيارة اللواء حسنى مبارك قائد القوات الجوية لليبيا يوم 5 أكتوبر، والإعلان عن استعداد الرئيس السادات لاستقبال وزير الدفاع الرومانى فى مصر يوم 8 أكتوبر. كما تضمنت الإجراءات خطة الخداع الاستراتيجى لبث معلومات متضاربة للعدو، واستخدام اللهجة النوبية لتشفير الرسائل المهمة بين القوات أثناء المعركة لتضليل معترضى تلك الرسائل.
اللواء دكتور محمد الشهاوى، أحد أبطال حرب أكتوبر، أكد لـ«الوطن»، أن خطة الخداع الاستراتيجى المصرية نُفذت بشكل حيّر كل أجهزة المخابرات فى العالم، وأنها تدرّس فى الكليات العسكرية حتى اليوم باعتبارها أحد النماذج الناجحة فى خطط الخداع الاستراتيجى حول العالم، حيث إنك نجحت فى إخفاء نية الهجوم عن العدو، وسربت له ما دفعه للتأكد من أنك لن تحارب، فى الوقت الذى كانت فيه استعداداتك قد اكتملت بالفعل. وأضاف «الشهاوى» أن السادات والأجهزة المعنية بالدولة نجحت فى وضع خطة خداع على أعلى المستويات؛ حيث كانت القيادة السياسية واعية إلى أن «عنصر المفاجأة» أحد العناصر التى تدعم موقفنا فى الحرب، وقد تدفعنا للنصر، وهو ما تحقق بالفعل، بالإضافة إلى عنصر «المبادأة» بأن نكون الفعل وليس رد الفعل، وهو ما تم أيضاً.
وأوضح أن أحد العناصر المهمة الخاصة بخطة الخداع الاستراتيجى، كان تنفيذها على كافة المستويات المختلفة سواء العسكرية أو غيرها، بالإضافة إلى اختيار الحرب فى يوم عيد إسرائيلى، مما عزز من عدم إعلان الجانب الإسرائيلى حالة «التعبئة العامة» لإجهاض تحركاتنا لاسترداد أراضينا. وشدد «الشهاوى» على عنصر «السرية»، والذى حققته الدولة المصرية بنجاح منقطع النظير، حيث إن الضباط على الجبهة والجنود أنفسهم لم يكونوا يعلمون بالحرب إلا قبل بدئها بدقائق قليلة عبر «أظرف مغلقة» تسلمها الضباط، ليعلموا بالحرب وقتها.
وأكد أن عبقرية التخطيط المصرى لنجاح الحرب رغم التفوق الإسرائيلى الواضح من الأسلحة التكنولوجية لم يكن ليتأتى لولا عبقرية التخطيط والتدريب والتنفيذ، وإخفاء النية بالهجوم، مضيفاً: «المصريون يكتبون التاريخ دائماً». وأوضح «الشهاوى»، أن المخطط المصرى دائماً ما يستخدم كافة العناصر المتاحة له لـ«التخديم» على الهدف النهائى، والذى فى النهاية يكون المصلحة الوطنية العليا للبلاد، مشدداً على أن «عبقرية الخداع» عبر إخفاء معلومات مهمة عن العدو، ومنعها من التسرب إليه هى شهادة نجاح للقوات المسلحة المصرية، والأجهزة المعنية المختلفة