م الآخر| يحي الفخراني.. الفن كما يجب أن يكون
إن مادفعني اليوم إلى الكتابة عن هذا الفنان الجليل، يحي الفخراني، هو حاجة هذا المجتمع الذي أرهقه الجهل إلى معلمين من نوع هذا المعلم الجليل، ببساطة لأنه إذا كانت المدارس للصغار، فالتلفاز للكبار والصغار.
إن من ينظر لأعمال هذا العملاق الخلوق، لوجد فيها رؤية عميقة، وتوضيح وافي، وسلاسة في الوصول إلى القلب، فإذا تتبعنا بعض أعماله لوجدناها تأتي في أوقات دقيقة؛ لمناقشة قضايا حرجة بالنسبة لهذا المجتمع، فمثلًا مسلسل الخواجة عبد القادر، لو تفكرنا في وقت نزوله، لوجدنا أننا لو فهمنا رسالته حينها لكنا وفرنا على بلادنا الكثير والكثير من الدمار، فلقد جاء في شكل كاشف عن ديننا الجميل، موضح لمدى سماحة هذا الدين، وكيف كان الحب أساس في قلب هذا المؤمن الذي جاء من بلاد الغرب ليموت في بلادنا، فمات الظلام في قلبه حين أشرق الحب معلنًا عن رجل مؤمن حقيقي يقويه حبه للخالق على مايلاقيه من سوء من الخلق.
وإذا نظرنا لمسلسل (شرف الباب)، لوجدنا أنه يناقش قضية خطيرة في زمنها، كانت هي الأخرى ستوفر علينا الكثير إذا فهمناها في حينها، وهي قضية استحلال الحرام من أُناس يصلون، ويصومون، ويدعون حبهم لربهم، واهتمامهم بدينهم، فكان شرف فتح الباب الذي لم يكن شخصًا بعيدًا عن دينه، بل عاش طوال عمره اسمًا على مسمى، شرف ولكن عندما فتح الباب على الحرام واستحله، كانت هذه النهاية المبدعة حيث أصابه الجنون، وهو ذات الجنون الذي تفشى في مجتمعنا من التناقض الواضح بين هذا الرجل الذي يأخذ الرشوة ثم يقوم للصلاة، وللأسف لم يصل هذا المعنى لكثير من المتابعين لنفس المسلسل، وتساءلوا بكل سطحية "ليه نهاية المسلسل وحشة؟".
أما إذا نظرنا إلى مسلسل آخر مثل عباس الأبيض، لوجدنا أيضًا أنه كان يضع تحت ناظرنا حقيقة ولا أهم، ألا وهي اقرأوا التاريخ وتعلموا منه فهو يكرر نفسه، ودار المسلسل في إطار من الإسقاط الدرامي مابين عودته من العراق إلى بلاده، ولكن بإسم غير اسمه، وكانت قضيته طوال المسلسل في تداخل مبدع هو أن يثبت تاريخه الشخصي الحقيقي، وفي الوقت نفسه أن يعلم الناس التاريخ كما يجب أن يكون، وإن في حسن خلق الشخصية، والتي تصل إلى المثالية في بعض الأحيان نابعة من رسالة واضحة، هي أن من يتعلم ويعلم التاريخ بصدق لابد وأن يكون بهذه الأخلاق الحميدة.
وإذا خرجنا قليلًا عن التلفاز، وذهبنا سويًا لنشاهد رائعة شكسبير المسرحية (الملك لير)، وحينما يجسدها فنان بمثل حجم يحي الفخراني، فهو ببساطة يعلمك كيف تقرأ رواية لمثل هذا الكاتب الكبير، بل إنه يأخذك لمدى عمق كتابات أشهر كتاب الأدب، ويسلط الضوء على مدى اهتمام شكسبير بالبعد النفسي للشخصية، كل هذا تتتعلمه بسهولة لمجرد رؤيتك للدكتور "الفخراني"، وهو يمثل دور (الملك لير) دون أن يشرح لك أحد كلمة واحدة، كما أنك تلاحظ مدى قوة تقمصه للشخصية؛ حتى أنك تشعر حقًا أن الذي أمامك ملكًا حقيقًا انجيلزيًا، وتنسى في بعض الأحيان أنه يتكلم اللغة العربية الفصحى، وكما يذكرني ذلك أيضًا بمسرحية (جوازة طالياني) حينما شعرت أنني في إيطاليا، أو أنني أشاهد فيلمًا إيطاليًا خالصًا رغم تكلمهم باللهجة المصرية العامية.
وإذا تكلمنا عن تعدد أدواره مابين الخير والشر، وبين الذكاء والسذاجة، وبين الحب والنصب، فيبقى الشعور واحد بالرغبة الشديدة في التعلم اللذيذ من هذا الفنان المُعلم، حتى إنك إذا جلست أمام شخصية عباس، وهو يحكي التاريخ - الذي طالما درسته في المدارس كارهًا - إلا أنك تتمنى لو أن القصة لا تنتهي.
وفي النهاية أتمنى من كل قلبي، وأدعو الله لهذا الفنان المُعلم أن يطيل الله في عمره الحقيقي والفني، وأن يقدم لنا أكثر وأكثر من هذا الفن والعلم معًا، والذي نحن في أمسّ الحاجة إليه، خاصة في ظل مانحن فيه من جهل منتشر.