رحلة السلاح من «بحر الرمال الأعظم» إلى «قلب القاهرة»
عبر دروب صحراوية وعرة، تمتد بطول الحدود المصرية الغربية، تتسلل شحنات السلاح، فى جوف الليل براً، وبحراً عبر مياه البحر المتوسط، يسيطر عليها مجموعة من المهربين ذوى الأصول البدوية، منذ أحداث الثورة الليبية 17 فبراير 2011؛ حيث انتشرت عمليات تهريب السلاح الثقيل والخفيف من ليبيا إلى مصر، بعد فتح مخازن السلاح، التى هدد «القذافى» بفتحها وتمكَّن الثوار من الاستيلاء على بعضها أثناء معاركهم مع كتائب النظام الليبى، لتبدأ عصابات التهريب نقل السلاح الليبى إلى داخل الأراضى المصرية، فى ظل الفراغ الأمنى الذى تعانيه الدولتان.
فى عام 2012، اعترفت الحكومة المصرية، على لسان رئيس وزرائها، الدكتور كمال الجنزورى، بدخول أكثر من 10 ملايين قطعة سلاح عبر الحدود الغربية إلى مصر، معظمها من الأسلحة الثقيلة، التى استخدمتها العناصر الإجرامية الخطرة فى مواجهتها مع قوات الشرطة لأول مرة، وفقاً للواء سيد شفيق، مدير قطاع الأمن العام بوزارة الداخلية، بينما قدَّر المركز الوطنى للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية السلاح الليبى المهرب العابر للحدود المصرية بـ30 مليار جنيه، طبقاً للدراسة التى قام بها المركز. [FirstQuote]
«مهربو السلاح ذوو الأصول القبلية تربطهم صلة قرابة ونسب مع أبناء عمومتهم الذين ينتمون إلى نفس القبيلة داخل ليبيا». أبوالعبيدى سالم، أحد سكان منطقة سيدى برانى الحدودية بمحافظة مطروح، موضحاً أن عمليات التهريب لم تتوقف بين ليبيا ومصر حتى قبل أحداث ثورة 25 يناير؛ حيث كان يتم تهريب السجائر والأقمشة والخردة وغيرها، لكن بكميات محدودة، بينما تهريب السلاح، خصوصاً الأسلحة الثقيلة، من نوعيات المدافع 5 و14 مللى والجرينوف والكلاشينكوف وصواريخ جراد الحرارية وطبنجات بريتا وصواريخ سام 24، بدأ بعد سقوط نظام «القذافى».
«مافيا السلاح لا تتوقف عند عمليات التهريب».. هكذا يضيف «أبوالعبيدى»، أحد العاملين السابقين فى تجارة السلاح، الذى استغل مبادرة الجيش لتسليم السلاح الموجود لديه، كما فعل أبناء قبيلته، لتأكيد استمرار نقل السلاح الليبى إلى مصر بطرق غير مشروعة.
ووفقاً لما يقول «أبوالعبيدى»، فإن عمليات تهريب السلاح تزدهر فى حالات الانفلات الأمنى والاضطرابات السياسية، كما حدث بعد 25 يناير، وتقل كلما فرضت قوات الأمن سيطرتها على المنافد والحدود، لكنها لا تتوقف.
على مدار الثلاثة أعوام الماضية، تحولت الحدود المصرية - الليبية إلى منفذ لتهريب السلاح إلى مصر، عبر طريقين، الأول: مياه البحر المتوسط؛ حيث تبحر فيه مراكب الصيد محملة بالسلاح، بينما الطريق الثانى: الجبل، عبر الدروب الصحراوية الوعرة، التى تصعب السيطرة عليها دون طائرات الاستطلاع، ويستغل المهربون الثغرات الأمنية وسط بحر الرمال الأعظم، لكى يتمكنوا من تمرير شحنات السلاح، بحسب «أبوالعبيدى».
طريق البحر تدخل منه أكبر شحنات السلاح إلى مصر، بحسب أحد أهالى مدينة السلوم، التى تعتبر أول مدينة داخل الحدود المصرية يصل إليها السلاح الليبى المهرب؛ حيث يتحرك مركب الصيد محملاً بشحنات السلاح، من ميناء «البردى» الليبى، القابع على شاطئ المدينة التى تحمل نفس الاسم وتقع على بعد 10 كيلومترات، غرب مدينة مساعد التى يفصلها عن الحدود المصرية منفذ السلوم البرى، لكنها تعانى الانفلات الأمنى، ويسيطر عليها بعض القبائل، فى غياب لمؤسسات الدولة الأمنية؛ حيث يقوم تجار السلاح الليبيون من أبناء هذه القبائل بتحميل شحنة السلاح بمعاونة بعض الصيادين على المركب داخل الميناء، ويتحرك فى عرض البحر بهدف الصيد، ويكون فى انتظاره المركب المصرى الذى خرج بتصرح رسمى من أجل الصيد أيضاً فى عرض البحر، هذا ما يحدث الآن، كما يروى أحد أهالى السلوم، الذى يخشى ذكر اسمه خوفاً على حياته، بينما فى الماضى وتحديداً نهاية عامى 2011 و2012 كان مركب الصيد المصرى يصل إلى داخل الميناء الليبى، ويكون فى انتظاره تجار السلاح هناك على شاطئ الميناء ويتم تحميل السلاح، بينما إذا كان هناك أى توتر داخل الميناء الليبى، كان يتحرك «لانش» بالشحنة المهربة ويتم التسليم خارج الميناء، لكنها لا تتجاوز حدود المياه الليبية، على عكس ما يحدث الآن؛ حيث يتم التسليم فى عرض البحر عن طريق مراكب الصيد. [SecondQuote]
وبمجرد نقل الشحنة إلى المركب المصرى، يعود مرة أخرى إلى الحدود المصرية، ليمارس نشاطه الطبيعى الذى خرج من أجله، وفقاً للأوراق الرسمية (الصيد)، حتى تصله إشارة الدخول لتفريغ حمولته، بعد تهيئة الأجواء له من الناحية الأمنية، مع موعد عودته إلى الميناء وفقاً للتصريح الصادر له.
المكان الذى يرسو فيه المركب، يمتد بطول البحر من السلوم وحتى أبوقير، والذى يحدَّد حسب حجم المركب الذى يحمل السلاح؛ فالمركب الصغير (الفلوكة) يتحرك من السلوم وحتى قرية «أبوزريبة» التى لا تزيد على 30 كيلومتراً فقط، ويفرغ حمولته على الشاطئ مباشرة، بينما المراكب الكبيرة (البلنص) تتحرك إلى أى مكان يريده المهرب من السلوم وحتى أبوقير، ووفقاً لأحد أبناء المدينة الحدودية يعتبر أكبر مكان ترسو فيه مراكب تهريب السلاح «رأس الحكمة» و«الفوكة» التى تبعد عن مطروح 80 كيلومتراً، ثم تنقل عبر سيارات الدفع الرباعى إلى أماكن التخزين عبر مدقات وسط الصحراء.
نقل السلاح عبر البحر يختلف عن نقله عن طريق الجبل؛ فالسلاح الذى يتم تهربيه بحراً يتم تغليفه بطبقات بلاستيكية متكررة بطريقة محكمة، منعاً لوصول المياه إليه. بينما «الجبل»، الطريق الثانى، الذى ينقل من خلاله السلاح الليبى إلى مصر، عبر دروب ووديان الصحراء الغربية الشاسعة، الممتدة على حدود الدولتين (مصر وليبيا)، لكنه يختلف عن البحر فى عملية النقل، بالعنصر البشرى الذى يعتمد عليه المهربون لنقل السلاح؛ حيث يُستبدل الصيادون بـ«الحمالين» أصحاب الخبرة فى نقل البضائع المهربة عبر الصحراء بمقابل مادى، وينتهى دورهم بمجرد تحميل الشحنة المهربة أو تخزينها.
السلاح الذى يهرَّب عن طريق الجبل يدخل إلى مصر من خلال بحر الرمال الأعظم، بخلاف منفذ السلوم، الذى كان يدخل منه بعض الأسلحة فى وسط البضائع، بكميات محدودة، مقارنة بالطرق الأخرى، خصوصاً بعد أحداث الثورتين الليبية والمصرية، لكنه يخضع الآن لسيطرة تامة من قوات الجيش والشرطة التى تفرض سيطرتها على المنفذ، بحسب أحد المصادر الأمنية من داخل معبر السلوم البرى.
صحراء سيوة إحدى المناطق الرئيسية التى يدخل منها أكثر من 70% من السلاح المهرب عن طريق الجبل، الممتد على طول الخط الحدودى الذى يمتد لأكثر من 3 آلاف كيلومتر؛ حيث يتم نقل السلاح من صحراء جعبوب الليبية إلى الحدود المصرية، وصولاً إلى قرية «حطية اللبق»، التى تقع على بعد 30 كيلومتراً جنوب مدينة سيوة، كما يروى ماهر سعد، قائد إحدى سيارات السفارى، كاشفاً أن قريتى «بهى الدين» و«شياطة» من أكثر المناطق التى يدخل إليها السلاح، لقربهما من الحدود الليبية؛ حيث يتحرك المهربون مع سواد الليل، لكى يتمكنوا من العودة قبل ضوء النهار.
وفى أحيان أخرى، كما يقول السائق الثلاثينى، تسلك مافيا السلاح طريق الواحات الخالى من البشر، خاصة فى منطقة البحرين الأثرية، التى يحتاج الدخول إليها تصريحاً من الجيش، لكن أبناء القبائل وقاطنى الحدود يعرفون دروبها جيداً، ويسلكون طرقاً مؤمنة يستطيعون العبور منها أو الهروب فيها فى حالة المواجهة مع الأمن، على عكس قوات الأمن التى تقتصر معرفتها بهذه المناطق على مسافة محدودة، ولا تستطيع الدخول إلى المناطق الوعرة داخل الصحراء.
بينما الطريق الثانى داخل الجبل، الذى يعتبر الأكثر خطورة «مناطق الألغام» الحدودية بين مصر وليبيا، التى تنتشر فى أماكن متفرقة داخل المنطقة الصحراوية المحصورة بين مدينتى السلوم وسيوة، وتصل مساحتها إلى 400 كيلومتر، وفقاً لجمعية الناجين من الألغام للتنمية الاقتصادية.
ويقول «ب. ف»، أحد سائقى السيارات السفارى: إن مهربى السلاح يستعينون ببعض سائقى السيارات المحترفين فى قيادة السيارات وسط الصحراء (أصحاب القلب الميت)، كما يصفهم، يسيرون بسياراتهم بسرعة رهيبة فى الرمال، خصوصاً فى مناطق الألغام، فحسب السائق الذى يؤكد أن لغم الدبابات لا ينفجر إلا إذا تجاوز الوزن فوقه 180 كيلوجراماً، مع زيارة سرعة سيارات السفارى يصل وزنها إلى 120 بالحمولة، وبالتالى لا تستطيع السيارة الضغط على الألغام التى يحفظ قائدها مكانها وتعبر من فوقها بسلام.
رغم الجهود التى تقوم بها الأجهزة الأمنية، من محاولة فرض سيطرتها على الحدود الغربية وتكثيف الكمائن والدوريات الأمنية داخل هذه المناطق والتمكن من إحباط العديد من الشحنات التى يتم تهريبها وطرح المبادرات واستجابة بعض القبائل لها والتفاعل معها وتسليم الأسلحة التى فى جعبتها إلى الدولة، سواء فى محافظات الصعيد وسيناء ومطروح، فإن عملية وقف تهريب السلاح إلى مصر لا يمكن القضاء عليها نهائياً، وفقاً للواء شوقى الحفناوى، الخبير العسكرى، مرجعاً السبب إلى المساحات الشاسعة ذات الأطراف المترامية داخل الصحراء الغربية، التى يسلكها المهربون ويعرفون دروبها جيداً.