حجم الدول لا يتحدد فقط بما تملكه من معطيات قوة تكنولوجية وعلمية وعسكرية، بل بأساليب إدارتها لجميع نواحى الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والإعلامية وخلافه. أقول ذلك بمناسبة الخبر الذى تداولته وسائل الإعلام حول تصويت مجلس النواب الروسى بالإجماع، لصالح إقرار مشروع قانون من جانب الرئيس فلاديمير بوتين، يسمح له بالبقاء فى السلطة مدى الحياة. ليست هذه هى المرة الأولى التى يسعى فيها «بوتين» إلى البقاء فى السلطة بالأساليب إياها المعروفة. قد يكون الرجل قائداً عظيماً وزعيماً فذّاً، لكن الدول الحقيقية لا ترتهن بشخص، مهما كانت قدراته. وحقيقة الأمر فإن حرصه غير الطبيعى على الخلود المستحيل على كرسى الحكم يُشكك أصلاً فى قدراته.
يعلم «بوتين» أكثر من أى أحد كيف كان الاتحاد السوفيتى دولة عظمى، ثم تحللت إلى مجموعة من الدول، لتتربّع الولايات المتحدة على عرش النظام العالمى، ويفهم أن سقوط الاتحاد السوفيتى تلخصه عبارة واحدة، هى «احتكار الحقيقة». المقدمة الأبرز لسقوط هذه الدولة الكبرى تمثلت فى انفجار مفاعل «تشرنوبيل» عام 1986. عندما وقعت الواقعة وحدثت الكارثة، بادرت السلطات هناك إلى التعتيم على ما يحدث فى موقع المفاعل شمال أوكرانيا. لم تكتفِ السلطات بإخفاء الحقائق، بل اجتهدت فى نسج الأكاذيب حول ما يحدث، حتى بدأت المعلومات تتسرّب على مستوى أجهزة إعلام عالمى لتقدم للعالم الحقيقة. وكان الشعب السوفيتى آخر من يعلم!. وحتى اللحظة التى نحيا فى ظلها، لا يزال الرقم الخاص بضحايا كارثة تشرنوبيل مجهولاً.
وبعيداً عن الآثار البيئية والصحية للكارثة، فقد عرّت النظام السياسى هناك أمام الشعب وكشفت ألاعيبه، وكيف يرتكز على مجموعة من الأكاذيب الكبرى. وقد أبى مجموعة من العلماء السوفيت ذوى الضمير اليقظ أن يتركوا الأمور على ما هى عليه، فكشفوا الحقائق كاملة حول ما حدث فى ليلة السبت 26 أبريل 1986. وقد دفع البعض حياته ثمناً لذلك. حاول الساسة المراوغة على الشعب بكل طاقتهم، لكن كانت الأمور قد أفلتت من عقالها، بعد أن أصبحت الحقيقة على المشاع، وانهار مبدأ احتكارها من جانب الجالسين داخل الكرملين ومؤسسات الدولة السوفيتية.
تكامل هذا الحدث مع الفشل، الذى أثبته السوفيت فى رحلة غزوهم لأفغانستان، فقد تمكن الأمريكان من ملاعبتهم فى هذا الملف بطرق متنوعة، كانت كلها من وراء ستار، فدفعوا عدداً من الدول العربية والإسلامية إلى دعم فكرة «الجهاد ضد الإلحاد»، ثم عمدت حكومات هذه الدول إلى حشد الإسلاميين وشحنهم إلى بلاد الأفغان للقيام بدورهم فى الجهاد!. ومع توافر الأسلحة فى أيدى الأفغان الأصلاء وكذا الأفغان العرب، بدأت القوة السوفيتية، رغم ما تملكه من معطيات، فى الانهيار، وانتهى المشهد بانسحاب مخزٍ والعودة بخفى حنين.
أواخر عام 1991، أصدر مجلس السوفيت الأعلى بياناً يعلن فيه الاعتراف بحق الجمهوريات السوفيتية فى الاستقلال، فتفككت الدولة الكبرى التى شكلت أحد قطبى الحرب الباردة بعد الحرب العالمية الثانية. حمل هذا الإعلان درساً -يبدو أن بوتين لا يريد أن يتعلمه- بأن سقوط الكبار لا يحتاج أكثر من الغرق فى وهم الكذب على الذات وعلى الغير، والابتلاء بمرض «احتكار الحقيقة».