مراكز التعليم السورية.. أسرة نور: وفرت بيئة مناسبة لتعليم عمر وعبدالرحمن
عمر ونور وهما داخل الفصل
وقف «عمر» أمام المرآة بقامته القصيرة ممسكاً فرشاة تصفيف الشعر يمررها مرة بعد أخرى على رأسه، ذلك الرأس الصغير لطفل لم يتخط عامه الثانى عشر بعد، بينما كانت عيناه شاردتين، وكأنهما عادتا به إلى ساعاته الأخيرة فى وطنه سوريا قبل 7 أعوام، عندما كان إلى جوار شقيقه يسكنان حضن أمهما وأصوات الرصاص والقصف تصم آذانهم، كان قرار الرحيل عن سوريا حينها قد حسم فى أسرته الصغيرة، قبل أن يتجهوا إلى مصر فى رحلة لم تخل من معاناة، استقروا بعدها فى مدينة السادس من أكتوبر بمحافظة الجيزة.
خرج «عمر» عن شروده بعد أن سمع نداء أمه له، ليضع اللمسات الأخيرة على تسريحة شعره قبل أن يتجه إلى خارج الغرفة استعداداً لتناول وجبة الفطور قبل أن تأتى حافلة المدرسة، فقد قاربت الساعة على السابعة والنصف، لتبدأ بعدها الأسرة يوماً آخر من أيام غربتها المعتادة.
تتكون أسرة «عمر»، بالإضافة إليه، من أخيه التوأم «عبدالرحمن»، وأمه نور حسين، أخصائية التخاطب، ووالده الذى هاجر إلى ألمانيا بعد عامين فقط من دخولهم مصر فى أواخر عام 2012 ولم ينته من إجراءات لم الشمل هناك بعد، بينما كانت بقية أفراد الأسرة هنا فى مصر تعيش حياة لم يعتادوا عليها فى بلدهم الأم، فبعد أن كانت «نور» ربة منزل لا تعرف للعمل طريقاً، أجبرتها الظروف الآن على تحمل مسئولية لم تكن تتخيل يوماً أن تقع على عاتقها، هكذا قالت «نور» وهى تضم طفليها إلى حضنها بكلتا يديها، قبل أن تدق ساعة «الفراق المؤقت» بقدوم حافلة المدرسة، لتقف الأم أمامها تودع طفليها بعد أن استعدت هى الأخرى للذهاب إلى عملها.
"الأم": ابناى فشلا فى الاندماج مع غيرهما من الأطفال داخل المدارس العادية بسبب الظروف غير الطبيعية التى مرا بها داخل سوريا
تفترق أسرة «نور» لنحو 8 ساعات يومياً هى الأثقل على قلبها، فالأحداث «الصعبة» والمتلاحقة خلال الأعوام القليلة الماضية جعلتها تحترق خوفاً على أطفالها كلما بعدا عن نظرها، وكانت الدراسة فى مركز تعليم سورى لأطفالها أمراً يبعث فى نفسها شيئاً من الطمأنينة، فالظروف «غير الطبيعية» لابنيها وغيرهما من الأطفال السوريين فى مصر، ترى «نور» أنها تصعّب عملية اندماجهم مع غيرهم من الأطفال فى المدارس العادية، بينما يكون الأمر أسهل فى بيئة تشبه بعضها بعضاً، مثل المراكز السورية، وهو الأمر الذى كان واضحاً بمجرد صعود «عمر» و«عبدالرحمن» إلى الحافلة، حيث كانت الضحكات وروح الدعابة وظهور ابتسامة عريضة على وجهيهما وغيرهم من الأطفال الموجودين بالحافلة.
أمام أحد مراكز التعليم السورية بالحى الثامن بمدينة السادس من أكتوبر، توقفت حافلة الطفلين، لينزلا منها وغيرهم كثيرون من الأطفال مسرعين خطواتهم باتجاه المركز وقد سادت بينهم حالة من المرح تناسب سنهم، وتشير من ناحية أخرى إلى ذاكرة قد توقفت هنا عن عرض مشاهد الدم والدمار فى بلد لم يره معظم هؤلاء الأطفال منذ وقت طويل.
يدرس «عمر» و«عبدالرحمن» فى الصف السادس الابتدائى داخل مركز تعليم سورى يقدم خدماته لطلاب مراحل ثلاث، رياض الأطفال والابتدائية والإعدادية، يذهبون إليه من السبت إلى الأربعاء كل أسبوع، بينما يذهبون يوم الخميس إلى المدرسة الحكومية المصرية المقيدين فيها، وهو اتفاق ودى أجرته مراكز التعليم السورية مع الإدارات التعليمية التابعة لها هذه المدارس، حيث يتم تدريس نفس المنهج المصرى داخل هذه المراكز، على أن تكون الاختبارات فى منتصف العام ونهايته بالمدارس المصرية.
يومٌ طويل قضاه الطفلان يتنقلان من حصة دراسية إلى أخرى، بنشاط وحيوية لم تذهب عنهما طيلة ساعات الدراسة، فهما فى بيئة لا تختلف كثيراً عن التى كانا عليها فى سوريا وقت أن كانت هادئة، جعلتهما منسجمين مع من حولهما، سواء كانوا طلاباً يعيشون جميعهم الظروف نفسها، أو معلمين يتفهمون جيداً الاحتياجات الخاصة لهؤلاء الأطفال الذين لا يمكنهم استيعاب آثار الدمار والدم فى بلدهم كما استوعبوها هم، فكانوا برفقتهم منذ بداية اليوم وحتى درجات سلم الحافلة التى تعود بهم مرة أخرى إلى بيوتهم، والتى صعد إليها «عمر» وهو يمسك بيد أخيه لا يود أن يفارقه.
لا تكل «نور» من انتظار عودة طفليها من المدرسة كل يوم، ولا تمل من متابعة الحافلة منذ تحركها وحتى وصولها إلى باب بيتهم عبر الهاتف، فمتابعتها لطفليها حتى وهى بعيدة عنهما أمر اعتادت عليه منذ أن وطئت قدماها أرض مصر، خاصة بعد أن قررت الدراسة فى كلية رياض الأطفال قبل نحو 5 أعوام، لما سيعزز ذلك من مهاراتها فى مجال عملها، لتظل طيلة أربعة أعوام كاملة ما بين عمل ودراسة وتربية، ومتابعة لطفليها فى أوقات بُعدها عنهما أو بُعدهما عنها، لتعبر «نور» عن شعورها فى هذه الأوقات بقولها: «كنت أخاف حتى ابنى يمرض أثناء امتحانى، لأن ما كان فيه حدا ياخده على الدكتور أو يعطيله الدوا، وأنا نفسى كنت أخاف أمرض، لأنى إذا مرضت ما كان فيه حدا ياخد باله من ولادى».
توقفت الحافلة أمام بيت «نور»، ونزل منها الطفلان يهرولان باتجاه أمهما المتلهفة لرؤيتهما، قبل أن تحتضنهما ويتجهوا سوياً إلى الداخل بعد أن ودع الطفلان أصدقاءهما، ليكون بعدها بضع ساعات روتينية فى يوم أسرة «نور» الصغيرة، تبدأ بالطعام وساعة من الراحة تتخللها مكالمة هاتفية مع والدهما، اعتادوا عليها، يطمئنون فيها على بعضهم البعض، ويتبادلون رواية المواقف التى قد تبث الفرحة فى قلوب كل منهم.
ساعات المذاكرة ومراجعة دروس «عمر» و«عبدالرحمن» لم يعد لـ«نور» فيها دور كبير، كما كان من قبل، وفق قولها، حيث أصبح يعتمد الطفلان على نفسيهما فى أغلب الوقت، فقط كان الأمر صعباً فى البداية، حتى تمكنت «نور» وطفلاها من استيعاب المناهج الدراسية المصرية، وكان اللجوء إلى «جوجل» هو سبيلها فى حال سألها طفلاها شيئاً عن مصر لا تعرفه من أمور التاريخ أو الجغرافيا، ومع الوقت كانت هذه الأسئلة تقل تدريجياً بعدما أصبح الطفلان يبحثان عنها بنفسيهما، لتتفرغ «نور» فى أوقات مذاكرتهما إلى ترتيب أغراضهما أو قضاء بعض احتياجاتهما المنزلية، فى مشهد يعيد إليها ذكريات بيتهم الذى تحول إلى كومة من التراب بعدما تعرض للقصف عقب خروجهم من سوريا.
أحداثٌ كثيرة فى يوم أسرة «نور»، منها ما يتجدد يوماً بعد آخر، ومنها ما هو متكرر، كحديثهم الدائم كل ليلة، يسترجعون فيه السيئ والحسن من يومهم، وتحرص فيه «نور» على تغذية أفكار طفليها بذكرياتها الطيبة عن بلاد الشام، فى محاولة منها لربطهما ببلدهما الأم حتى لا ينسلخ الوطن من وجدناهما ويظل «حلم العودة» حاضراً فى ذهنهما، كما هو حاضرٌ فى ذهنها وقلبها الذى يحترق شوقاً للقاء بقية أفراد أسرتها المتفرقين كلٌ فى بلد، فما أن تذكرتهم وبدأت فى الحديث عنهم، حتى اغرورقت عيناها بالدموع، ولم تتمكن هنا من حبسها أكثر من ذلك، لتأخذ طريقها إلى خديها كما أخذت «الكلمات المكبوتة» أيضاً طريقها، قبل أن تخرج بنبرة باكية: «أكتر شىء مؤلم بوضعنا إنه كل أخ بمكان صار، أى حدا مسافر بييجى بالصيف بتشوف إخواتك، لكن إحنا ما فيه عندنا صيف ولا شتا».