عصام زكريا يكتب: إعلان وفاة السينما فى مهرجان القاهرة السينمائى
عصام زكريا
منذ فترة ينتابنى إحساس غامض بأن السينما، بمفهومها الذى تربينا عليه، تحتضر، وأنها فى طريقها إلى الموت إن عاجلاً أو آجلاً.
حتى نجاح مهرجان القاهرة السينمائى فى دورته الحالية لم ينزع هذه الأفكار من رأسى، بل عززها، كما فعلت مهرجانات وفعاليات سينمائية أخرى خلال السنوات القليلة الماضية.
من أول الافتتاح بفيلم «إنترنتى»، على وزن «تليفزيونى»، ليس مصنوعاً للعرض على الشاشات الكبيرة القديمة، التى اختفت من العالم تقريباً، ولا الشاشات الصغيرة الحديثة، ولكن على شاشات «اللاب توب» و«الموبايل» وفى أفضل الأحوال على شاشات العرض المنزلى المزودة بوصلة إنترنت!.. إلى اتساع الهوة المتزايد بين ما نطلق عليه «أفلام المهرجانات»، أو «السينما الفنية»، أو السينما الجادة، أو السينما غير الأمريكية، وبين الأفلام الأمريكية التجارية، التى تغزو العالم منفردة، ولكن حتى هذه السينما تعانى بشدة من أفاعيل الثورة التكنولوجية وتطور وسائل المشاهدة والقرصنة وتقلص دور العرض السينمائى وغيرها من المشاكل.. وحتى ما يعرف بأفلام «الواقع الافتراضى»، تلك البدعة الجديدة، التى تعرض نفسها على استحياء هذه الأيام، وتتسلل بنعومة إلى محلات العروض السينمائية المختلفة، وها هى قد نصب لها برامج خاصة فى المهرجانات الدولية، ووصلت إلى «الجونة» و«القاهرة» الذى يخصص هذا العام برنامجاً كبيراً يتكون من عشرين «مقطعاً» فيلمياً تتراوح من دقيقتين إلى أربعين دقيقة!
الحديث عن الماضى و"نتفليكس" والواقع الافتراضى
أفلام «الواقع الافتراضى» تجربة مذهلة، ونقلة نوعية فى طبيعة التفاعل مع ألعاب الفيديو وتلقى الأفلام والقصص الدرامية، حيث يتحول المشاهد فعلياً إلى شخصية متأثرة ومؤثرة داخل الدراما، وقد جربتها شخصياً أثناء زيارة لمعهد «جوته» فى ألمانيا العام الماضى، حيث دخلت، بمعنى الكلمة، «فيلماً»، دعنا نسميه فيلماً، مأخوذاً عن قصة «التحول» لفرانتز كافكا، لأكتشف أننى أصبحت الشخصية الرئيسية التى تحولت إلى حشرة، ولم أعد قادراً على العودة لطبيعتى أو الخروج من الفيلم!
صحيح أن الإقبال يتزايد على أفلام مهرجان القاهرة حول ساحة دار الأوبرا، كما تزايد على سينما «زاوية» أثناء بانوراما السينما الأوروبية، ومعظم هذا الجمهور من الشباب، الذى يطلق عليه «سينيفيل»، أو «عشاق السينما»، وهذا جميل، بل أجمل ما فى الموضوع. ولكن كم نسبة هؤلاء فى المائة مليون مواطن الذين يحتلون مصر؟! والأهم: ماذا يفعل هؤلاء العشاق بقية السنة؟ يشاهدون الأفلام والمسلسلات على «نتفليكس» وأجهزة اللابتوب!
الحقيقة المدهشة أن الثلاثمائة فيلم التى يعرضها المهرجان ليس لدى أى منها، ولا واحد تقريباً، فرصة العرض السينمائى العام فى مصر، وربما العالم العربى كله. المشكلة عالمية، ولكن لدينا متفاقمة، والحالة متأخرة جداً.
وباستثناء بعض الأعمال «التجارية» الأمريكية والمصرية، ليس لدينا سوق لعرض الأفلام حتى العربية، وحتى المصرية الجيدة، والحمد لله، الذى لا يحمد على مكروه سواه، لم يجد مهرجان القاهرة بجلالة قدره فيلماً مصرياً جديداً واحداً يعرضه داخل أو خارج المسابقة، مكتفياً بفيلم تسجيلى عن عائلة الراحل يوسف شاهين!.. ويبدو أننا سنكتفى بالحديث عن سينما الراحلين قريباً.
هل لاحظت عدد الأفلام التى تتغنى بتاريخ السينما العالمية وصناعها فى المهرجان؟ الزميل رامى المتولى اكتشف هذه الحكاية وكتب عنها مقالاً قبل بداية المهرجان، عدَّد فيه الأعمال التسجيلية والروائية الكثيرة التى تتناول «ماضى» السينما فى كل أقسام المهرجان تقريباً.
وهذه الظاهرة ليست محدودة ولا قاصرة على مهرجان القاهرة، بل يمكن ملاحظتها فى الكثير جداً من المهرجانات العالمية، التى يبدو كما لو أنها تستشعر ذلك القلق الغامض بأن السينما كما نعرفها على وشك أن تموت، ولذلك تحاول إحياءها بأكبر قدر من الشجن والحنين.
وخذ عندك مثلاً فيلم المخرج كوينتين تارانتينو الأخير «حدث ذات مرة فى هوليوود»، الذى يحاول حرفياً «إعادة صنع» بعض من أفلام العصر الذهبى للسينما خلال ستينات القرن الماضى، وبالمناسبة «تارانتينو» الذى كان بالنسبة لنا نجم «ما بعد الحداثة» أصبح الآن أشبه بديناصور منقرض يتمسك بالماضى، فهو أحد المخرجين المعدودين فى العالم الذى لا يزال يصر على تصوير أفلامه بكاميرات السينما القديمة، الـ35 أو الـ70 مللى، وليس الكاميرات الرقمية الحديثة!
لا أكتب ذلك من موقع المتشائم، ولا أعتقد أن السينما نفسها ستموت، بل فقط السينما بمفهومها القديم.
عندما ظهر التليفزيون فى نهاية الخمسينات من القرن الماضى تأثرت السينما كثيراً وانتشر خوف من أن التليفزيون سيقضى على السينما.. ولكن حدث العكس لأن السينما اضطرت إلى تطوير نفسها لمنافسة الشاشة الصغيرة. وعندما انتشرت أغانى الفيديو كليب ساد الخوف من موت مطربى الراديو، وظهرت الأغنية الشهيرة «الفيديو قتل نجم الراديو»، وقبلها قضى اختراع الميكروفون على مطربى «الصوت الحيانى»، ولكنه فى المقابل أحيا مطربى الإحساس.
سكان هوليوود يحاولون الآن مقاومة الغزو «الإنترنتى» و«النتفليكسى» بأفلام الـ«ثرى دى» والـ«آيماكس»، كما فعلوا أيام التليفزيون، ويبحثون عن طرق أخرى أكثر ابتكاراً.
والمهرجانات السينمائية باتت ملجأ أخيراً يختبئ فيه عشاق السينما من القصف الفضائى والعنكبوتى والخليوى.
.. ولكن التغيير قادم لا محالة، لا نعرف ملامحه بالضبط، وهل سيكون شيئاً سيئاً أم طيباً. الأرجح أنه لن يكون سيئاً ولا طيباً، ولكن مختلفاً، ومتحولاً، يناسب الكائنات المتحولة التى يسير نحوها ويصير إليها الجنس البشرى.
صحيح أن الإقبال يتزايد على أفلام مهرجان القاهرة حول ساحة دار الأوبرا، كما تزايد على سينما «زاوية» أثناء بانوراما السينما الأوروبية، ومعظم هذا الجمهور من الشباب، الذى يطلق عليه «سينيفيل»، أو «عشاق السينما»، وهذا جميل، بل أجمل ما فى الموضوع