«الوطن» تنفرد بنشر ترجمة قصة «النمل العملاق» لـ«خالد السباعى» ضحية رحلة الموت فى جبال «سانت كاترين»
يشاهدون وجهه على شاشات التليفزيون وصفحات الجرائد وصفحات الفيس بوك، فلا يخفى عليهم رؤيته من قبل، إنه من الوجوه التى لا تُنسى.
أخذ يتحدث مع زملائه المتسابقين ويسألهم عن كتاباتهم فى لحظات انتظارهم نتيجة مسابقة الكتابة التى شاركوا فيها. يُفاجأ خالد السباعى بأن قصته عن قصر البارون فازت بالمسابقة ونُشرت بكتاب «مكان»، الذى يجمع أعمال الفائزين، ويُفاجأ زملاؤه الذين وقَّع لهم على الكتاب أن صاحب الإمضاء الذى قابلوه منذ نحو أسبوعين غادر الحياة.
فى 5 فبراير الماضى، ذهب خالد السباعى إلى حفل الإعلان عن نتيجة مسابقة «مكان» التى شارك فيها والتى نظمتها مؤسسة «كُتّاب منسيون» بالاشتراك مع دار نشر كيان. كان المطلوب فى المسابقة كتابة قصة قصيرة عن أحد الأماكن الثلاثة (قصر البارون - قلعة قايتباى - حى الحسين)، سواء باللغة العربية أو الإنجليزية، ولقد تم تجميع القصص الفائزة فى كتاب باسم المسابقة. واختار خالد السباعى الكتابة عن قصر البارون باللغة الإنجليزية باسم «النمل العملاق». بعد إعلان النتيجة، أخذ المتسابقون يتبادلون توقيع نسخهم من الكتاب.
ويقول محمود منسى، مؤسس مسابقة مكان الأدبية عن «السباعى»: «خالد إنسان متواضع وكل من رآه أحبه، فهناك شىء مختلف فى وجهه وروحه، وذلك منعكس فى جميع كتاباته التى تتميز بتأمل الكون من نواحٍ نادرة، إن كثيراً من الكُتاب يكتبون بشكلٍ جيد وهم فى الواقع أشخاص عاديون، الذى يميزهم هو مخيلتهم وإصرارهم. ولكن خالد رزقه الله بشىء آخر فهو من نوع الكُتاب الصادقين الذين وصفهم الله بأنهم يقولون ما يفعلون».
وتنشر «الوطن» ترجمة قصة «النمل العملاق» التى فازت بجائزة «مكان» بالتنسيق مع إدارة المسابقة:
«إنه قصره، لا تنسوا ذلك. إنه أملكم الوحيد، هذا إذا كنتم ما زلتم تريدون الخروج من هنا والعودة لحياتكم الكبيرة مرة أخرى»، كان يتحدث إليهم بمنتهى الجدية. صمت الجميع، فلقد أيقظتهم كلمته من ضوضائهم اليائسة، ونبهتهم إلى حقيقة لا يمكنهم إنكارها أو الهروب منها، على الأقل حتى الآن.
لم يكن أمامهم سوى الاستسلام وتسليم دروع وهمية من ثرثرتهم البشرية، وأن ينظروا بشجاعة إلى حقيقة أنهم ما زالوا مجموعة من النمل مجتمعين أمام نائب البارون، الذى ترددت نبرات صوته متوعدةً وجديرةً بالخطر الذى تتحدث عنه، فى أجسادهم الضئيلة كانوا يفتقدون جميعاً تلك الحنجرة البشرية.
بالرغم من أنهم غير مرئيين فى تلك الصحراء الشاسعة التى تحيط بالقصر، فإنهم يشعرون بالأمان تحت رقابة البارون، الذى كان لا يزال يسيطر على قوات القصر. ولكن لم يكن الأمان كل ما يحتاجونه، بل كانوا يريدون أن يعودوا إلى بشريتهم مرة أخرى، ولذلك كانوا يستمعون باهتمام لكل كلمة يقولها النائب فى هذا الاجتماع، وخصوصاً بعد أن حوّل البارون قادماً جديداً إلى نملة بالأمس.
قال نائب البارون: «إنه على وشك المجىء.. سوف يستسلم ويكون واحداً منكم.. أنا متأكد من ذلك»، وهكذا أعلن النائب عن آخر زائر اقتحم القصر الليلة الماضية، الذى حوّله البارون إلى نملة هو الآخر، لتطارده ذكريات الإنسانية المستعرة، مثلهم جميعاً الآن.
ردت النملة رقم 36 معترضةً قائلةً: «لماذا يفعل البارون كل ذلك؟ ليثبت فقط أنه ما زال حياً؟ إذن، أنا آسفة إذا كان أىٌّ منّا ظن العكس. اعتقدنا ذلك عندما كنا أحياء بالخارج».
قال النائب: «سأجيبك مرة أخرى، لأن لا أحد يستطيع أن يغادر دون إذن البارون، ومن الأفضل أن تسألى الأسئلة الصحيحة إذا كنت تريدين أن تخرجى من هنا حيةً على قدميك. البارون لا يحتاج أن يثبت أى شىء لأى أحد. انظروا لبعضكم البعض، أليس ذلك دليلاً كافياً على أنه حى؟».
قالت النملة رقم 100: «نحن نستمع إليك أيها النائب، أكمل من فضلك. سوف نخرج جميعنا من هنا بلا شك».
«إذن، سيكون ذلك الوقت خلال نافذة زمنية ضيقة للغاية، ولن يكون هناك فرصة للعودة لمن بدأوا هذا الطريق. وبالنسبة لهؤلاء الذين يختارون البقاء فسوف يضمن لهم البارون ألا يحدث لهم شىء أكثر مما حدث لهم. أما من سيختارون الرحيل فسوف يتعرضون لخطر هذا الأمل وإلى أى مدى سوف ينال ذلك منهم»، قال النائب ذلك بمكر وبابتسامة لا تخطئها عين أبعد نملة عن مكان وقوفه فوق كرة القطن البيضاء. وبالرغم من أنه اعتاد ذاك المشهد، فإنه يستمتع بتأثير كلماته على جمهوره، حيث يختلف هذا التأثير فى كل مرة يقولها. سكت ليستمتع باللحظة. كان ينتظر الأسئلة. كان بإمكانه أن يخمن من سيلقى أول سؤال.
سألت النملة 36: «مزيد من التفاصيل من فضلك، أيها النائب. مثلاً متى ستحدث هذه النافذة الزمنية؟».
«المعلومات التى أعرفها الآن أنها قريبة للغاية. هناك شخص كثيراً ما يحوم حول ذلك الجزء من مصر الجديدة محاولاً أن يجد طريقة للدخول هنا. ولقد قرر البارون أن يمنحه فرصة الدخول قريباً، وعندما يدخل هنا سوف يحوّله البارون. سيحدث ذلك خلال تلك النافذة الزمنية، حينها سيُسمح لكم بالخروج. وكما قلت هى مدة زمنية محدودة جداً. وخلالها هناك أشياء غريبة ومميتة سوف تحدث، حيث لن ينجو العديد منكم، ومن المحتمل أن ينجرف بعضكم ولن يستطيع العودة أبداً فى أى شكل ملموس».[SecondImage]
سكت النائب مرة أخرى لينسج أشعة رؤيته النافذة حول صفوف النمل، ليرى تأثير هذا الأمل الجديد الذى زرعه فى حقولهم. ولكن هل كان حقاً أملاً أم مزيداً من اليأس غمر فيه بعض النمل الذى يقف أمامه؟
ظل يحوم حول هذه البقعة المهجورة مرات كثيرة، دارساً المداخل والمخارج، دوريات الحرس، كاميرات المراقبة... إلخ، لقد استطاع بالفعل أن يدخل أكثر من مرة من قبل حتى قرر أن يكون هذا المكان مهربه وملاذه من هؤلاء الذين يلاحقونه، لقد فقد نفسه فى النسيان الخالد لهذا المكان، ترك نفسه تطفو بلا هدف فوق محور الزمان الشارد.
يتذكر أول مرة دخل فيها هنا، حيث شعر أنه وجد ركنه الذى اقتُطِع من دائرة بشعة من الأحداث خارج هذا القصر. كان يتمنى أن يموت فى هذا القصر، وأن يتنازل عن روحه للروح التى تسكن فى القصر. يشعر أنها تسهر لتراقبه مقدِّمة مساعدتها السماوية. كان متأكداً من أنه فى المرة القادمة التى يكون فيها بداخل القصر لن تدعه يتركها. كان لا يستطيع أن يواجه أى أحد سواها بضعفه، وكانت تقبله بلا شروط. وفى ظل حسن ضيافة قصر البارون، صار رجلاً بريئاً فى حين يراه الناس بخارج القصر مجرماً طريد العدالة.
فى هذه الليلة التى قرر فيها أن يدخل وربما لا يغادر القصر أبداً، لم يجد الحرس وكانت بوابة القصر مفتوحة، دخل وأغلق كل شىء خلفه حتى يضمن أن شيئاً لن يتسرب إلى الداخل معه.
كان يقف فى صالة القصر الرئيسية، كانت مظلمة ما عدا ما كان ينيرها من الأشعة التى يعكسها سطح القمر. كان الضوء مثل خيوط حريرية لشبكة عنكبوت يتجه إليها ليقع فى شركها. كان كأنه يقف فى فقَّاعة فارغة، منتظراً شيئاً ما ليحدث كعلامة ترحيب بوجوده، ولكن شيئاً لم يحدث. فى هذا الفراغ، شعر بكل حواسه تزداد حدة واستطاع أن يسمع همسات تأتى من كل مكان حوله فى عرين البارون. لم يكن بإمكانه تحديد ما يُقال، ولكنه كان متأكداً من أن ذلك لم يكن تأثير زجاجة الفودكا التى شربها قبل أن يدخل القصر.
بالإضافة إلى هذا الهمس الذى لم يتوقف، كان يسمع دقات ساعة قادمة من الدور الأول، فتساءل: «ماذا؟ وقت؟ ما الذى جاء بالوقت إلى هنا؟»، لم يستطع منع نفسه من صعود الدَّرَج إلى الدور الأول ليرى بنفسه هذه الآلة المهووسة بالوقت. فى طريقه إلى أعلى، اقتحمت رائحة المنزل أنفه بقوة لم يستطع فعل شىء بشأنها؛ رائحة الخشب، الحوائط المطلية حديثاً، ورائحة احتراق الشمع وكأنه لم يُطفأ إلا منذ دقائق قبل قدومه. كانت هذه الروائح المجتمعة تتخلله وتستعمر كيانه من الداخل، شعر أن هذه الرائحة تسيطر على جسده بالتدريج ولم يكن أمامه سوى الاستسلام.
ما زالت الساعة تدق، والصوت يعلو فى كل دقيقة. كان الوقت هو الشىء الوحيد الذى يستطيع التفكير فيه ومقاومته الآن، وظن أنه إذا استطاع أن يسكته فسوف يستطيع أن يوقف كل شىء ويلقى به فى طى النسيان.
وصل إلى الحجرة التى يأتى منها صوت الدقات، اندفع إلى داخلها وجال فى الحجرة وعيناه تبحثان عن الساعة التى كان صوتها عالياً للغاية، وكأن أذنيه صارتا مكبرات صوت مضبوطة لتصدر أعلى صوت لهذه الساعة. كان صوت الدقات يصدر من أول دُرج فى منضدة بجانب السرير، فتحه ووجدها. أمسك الساعة بيدٍ مرتعشة، كانت مثل قلب نابض عاد إلى الحياة مرة أخرى. أخذ قلب هذه الساعة يهتز بشدة تزداد فى يديه، كان يعلم أن عمل هذه الساعة يعنى سجنه مدى الحياة. وقبل أن يسكتها، انفجرت مصدرة إنذاراً بعثرت موجاته الصوتية ذرات جسمه المجتمعة مرات لا تحصى، فارتمى فى الهواء ليسقط على ظهره فى الأرض.
كانت هذه إشارة للنمل ليبدأوا ما ينتوون فعله، إذا كانوا يريدون الخروج من القصر؛ اندفعوا من كل مكان تجاه الزائر الملقى على الأرض مستهدفين عينيه، أذنيه، فتحات أنفه، وكل فتحات جسمه ومسامِّه. أصبح بوابتهم المفتوحة للعالم الحقيقى، فى حين كان يحوّله البارون. ما زال الإنذار يصدر صوته العالى.
بالرغم من أنه كان يرقد على الأرض نصف مشلول، فما زالت حواسه تزداد حدة، كان يستطيع رؤية النمل وهم يزحفون تجاه ضحيتهم كوحوش عملاقة، واستطاع أن يسحق بعضهم. لم يرَ نملاً من قبل بهذا الشر والجوع واليأس فى نفس الوقت. كان يصرخ فى ذعر حيث كان يشعر بهم يتحركون بداخله وفى دمه وبين خلايا جسده. يسمع صوت أقدامهم الضئيلة تدب على الأرض فى اتجاهه ليستعمروا جسده ويأكلوه من داخل جسمه. ظل يصرخ شاعراً بخلايا جسده تبتعد عن بعضها البعض. يشعر أنه ينقسم وكأن المغناطيس الذى يربط خلايا جسمه يفقد قوته. وكذلك هو، لم يعد لديه أى قوة، بل لم يعد موجوداً هناك فى الأساس. سكت الإنذار أخيراً.
فتح عينيه، فوجد نفسه على سرير رقم 100 فى مستشفى. أخذ يلهث ويتحسس جسده، غير مصدق أنه عاد إنساناً مرة أخرى. نهض قاعداً ونظر بجانبه، فوجد جثة مغطاة على سرير مجاور عليه رقم 36، فأخذ يغمغم بصوتٍ مسموع: «يا إلهى! النملة 36! ماذا حدث لها؟». كان الطبيب يتحدث إلى الممرضة فى ركن من الغرفة، وعندما رآه أسرع إليه قائلاً: «حمداً لله على سلامتك، لقد كنت قوياً بما فيه الكفاية لتفيق، ولكن لسوء الحظ على عكس صديقك الذى يرقد هناك، فهو لم يستطع العودة مرة أخرى، فلقد فقد الأمل فى منتصف الطريق. هناك أشياء لا يمكن التراجع عنها إذا بدأتها».
«ماذا حدث يا دكتور؟».
«دعنا نتحدث عن هذا الشاب فيما بعد. إنها المخدرات اللعينة مرة أخرى».