كان ميلاد هذه القصة فى الصيف، على شاطئ الإسكندرية، منذ سنوات قريبة.
وأقبل الليل.. وازدحم ملهى «الرومانس» برواده من أرقى طبقات المجتمع.. وتحت الأضواء الحمراء الخافتة، سرت نشوة التانجو، وعلى أنغامه رقص الرواد اثنين اثنين.
وكنت مع صاحبى -بطل هذه القصة- وهو من الشخصيات التى هزت المجتمع وشغلت الصفحات الأولى أكثر من مرة..
ففى المرة الأولى، خرجت مصر كلها لاستقباله، وفى المرة الثانية، سمعت مصر كلها صوته، وفى المرة الثالثة، لمع اسمه فى دنيا المال والأعمال، وفى المرة الرابعة، نزل من ميدان المال والأعمال إلى ميدان الفن، وفى المرة الخامسة، اقترن اسمه باسم سيدة كان اسمها ملء الأسماع فى حادث رهيب أطل عليه منه شبح الموت، ولكنه لم يمت.. وفى المرة السادسة، اقترن اسمه بقضية كانت حديث الناس، وأشرف على الموت مرة أخرى.. ومع هذا بقى على قيد الحياة.. وفى المرة السابعة، بدأت هذه القصة!
كنا فى ملهى «الرومانس».. وكان كل حبيب مشغولاً بحبيبته..
وكان كل وحيد مشغولاً بكأسه.. أو بالجميع، أما صاحبى، فقد جمدت عيناه وراء ثوب فى زرقة السماء، يملؤه وجه كأنه لوحة لو اجتمعت ريشات عباقرة الفن لما استطاعت أن تأتى بمثله فى رقته ودقته، ونعومته وحيويته، وجمال قسماته وألوانه، ظل يتطلع إليها زهاء ساعة، لا يتكلم، وأحدثه فلا يجيب. قلت له:
- سأتركك فى أحلامك.
- إلى أين؟
- إلى حيث أجد من أتحدث إليه.
- حسناً.. انتظر لحظة.. لحظة فقط.. ألا تريد أن تجلس مع هذه الساحرة ذات الثوب الأزرق؟
قلت مأخوذاً:
- أنا.. أجلس معها؟
- أجل.. ستجلس هنا.. بيننا نحن الاثنين.
- هل تعرفها؟
- لا.. ولكن.. ليس هناك مستحيل.
وهنا مر أمامنا «الميتر دوتيل» وكنا نعرفه جيداً، فناداه صاحبى وهمس فى أذنه ببعض كلمات، فابتسم «الميتر دوتيل» وهمس بدوره فى أذن صاحبى بكلمات أخرى وهم بالانصراف وهو يردد هذه الحروف: R.A.F.
وضحك صاحبى، وقال لى:
- ماذا فهمت؟
فقلت بسذاجة:
- إن صدق ظنى، فمعنى هذه الحروف أن ذات الثوب الأزرق لها صديق من رجال الطيران البريطانى Royal Air Force.
فاسترسل ضاحكاً، وقال:
- R.A.F معناها فى عرف رجال الفنادق Rien a faire.. يعنى: ما فيش فايدة. ولكن سأثبت لك العكس.
وروى لى صاحبى ما قاله له «الميتر دوتيل» همساً.. قال له إنها أجمل شابة فى الإسكندرية، ومن أصل يرجع إلى إحدى جزائر البحر الأبيض المتوسط، وأن عشرات ومئات من أجمل شباب المدينة وأعظمهم جاهاً وأوفرهم ثراء قد تعبوا وراءها على غير طائل.. وأضاف أنه سمع أن لها خطيباً فى تلك الجزيرة من جزر البحر الأبيض. وأنها سترحل إليه عما قريب.
ومع هذا، فإن صاحبى لم يزدد إلا إصراراً، ولا عجب، فقد كان دائماً يحب المشكلات.. ويحل المشكلات، وبعد أن كنت أهم بمغادرة المكان، أحسست أن القصة قد بدأت تصبح مسلية.. وفجأة.. قامت الحسناء عن مائدتها متجهة إلى التواليت، وهم صاحبى بالقيام إليها، فأمسكت بيده محذراً:
- أرجوك.. لا تفضحنا وسط الناس. ألم يقل لك «الميتر دوتيل» أنها R.A.F، فنظر إلى متحدياً، وقال:
- تراهن؟
وكنت أعرفه جيداً، فقلت:
- لا.. فإنك تكسب دائماً.
وقبل أن تدرك الحسناء باب التواليت بخطوة واحدة.. وجدت صاحبى يعترض طريقها، ويواجهها بقامته الفارعة، وابتسامته الساحرة، وأناقته التى كانت مضرب الأمثال.. ونظرت إليه الحسناء نظرة قاسية، ولكنها لم تستطع أن تغير من ابتسامته، وراح يقدم لها نفسه.. ذكر اسمه وصناعته، فلم تتحرك.. فقال لها:
- أتحبين أن أوقع معك.. الآن.. عقداً للسينما.. بثلاثين ألف جنيه فى العام؟!
وعند هذا الرقم، أحسست أن كل سنتيمتر فى وجهها يرتعد، وقالت:
- ثلاثين ألف جنيه؟
فأجاب فى جد وهدوء:
- أجل.. الآن!
فانفرجت شفتاها عن ابتسامة.. وقالت فى ذهول:
- هذه مسألة تستحق النظر.
فقال يحسم الأمر:
- حسناً. تفضلى.. وأنا فى انتظارك هناك.. عند هذه المائدة.
وأشار إلى المائدة، التى كنت أجلس إليها وحدى.
وعاد صاحبى، وقال لى:
- ألا تحب أن تراهن.. مرة أخرى؟
- ألم أقل لك إنك تكسب دائماً؟ قل لى.. ماذا صنعت؟
- سأجعل منها نجمة سينمائية.. بل النجمة السينمائية الأولى فى مصر.
ولم تمض ثلاث دقائق، حتى كانت الحسناء ذات الثوب الأزرق، مقبلة نحونا، وقد لاحظت أنها أصلحت من شأن زينتها فبدت أجمل مما كانت طول الليل.
وتعارفنا، وشربنا كأساً فى صحة الثوب الأزرق، وشربت هى فى صحة الثلاثين ألف جنيه، وتحدثنا عن السينما فى مصر، والسينما فى هوليوود وعن فستانها الأزرق، وأخيراً قالت:
- أنا راحلة غداً إلى «ليماسول».. سأسافر بطريق الجو.. وأقضى هناك أسبوعاً أو أسبوعين، ثم أعود. فمتى نلتقى مرة أخرى؟
فاعتدل صاحبى وقال فى حزم:
- لن تسافرى إلى ليماسول.. بل إلى القاهرة..
- ولكنى مسافرة لأمر هام.
- ليس أهم مما أدعوك إليه.
وأطرقت قليلاً تفكر، ولكنه لم يدع لها فرصة للتفكير، بل بادر إلى الخطة المرسومة:
- أعطنى عنوانك.. وغداً فى الساعة السابعة من الصباح الباكر، تكون سيارتى فى انتظارك لتسير بك إلى مطار الدخيلة، وهناك تكون طائرتى الخاصة فى انتظارك لتطير بك إلى القاهرة، وفى مطار ألماظة.. تكون سيارتى الأخرى فى انتظارك لتجىء بك إلى مكتبى.
وفغرت الحسناء فاها من الدهشة.. سيارة فى الإسكندرية.. وطائرة خاصة.. وسيارة أخرى فى القاهرة!
وكان كل هذا صحيحاً.. لا مبالغة فيه!
قالت له:
- وأنت؟
فأجاب بكل هدوء:
- ستجديننى فى انتظارك بالمكتب.
- ولكننى لا أعرف القاهرة معرفة طيبة، فليس لى فيها أحد، وقد قضيت جل حياتى بالإسكندرية.
- تقصدين الإقامة.. حسناً.. إن عندى شقتين فى عمارة فاخرة، وعائمة فى النيل، وجناحاً فى فندق، ولك أن تتخيرى منها ما تشائين!
وكان كل هذا صحيحاً أيضاً.. لا مبالغة فيه.
وسمعت الشابة الحلوة كل هذا، وكأنها تسمع أسطورة إغريقية قديمة، ولكنها لم تصدق، ولكن الصباح قد أصبح فى اليوم التالى، فوجدت السيارة، والطائرة.. والسيارة الأخرى.. وكل ما وعدها به فى القاهرة!
ولست أحسب أن النوم قد تطرق إلى عينيها المعسولتين الساحرتين طوال تلك الليلة.. ليلة السفر إلى القاهرة، فقد أصبح فى عينيها عند الصباح شبهة خفيفة من الاحمرار.. من أثر السهر.. ولست أدرى ما الذى سهدها؟ أهى الجنيهات الثلاثون ألفاً! أم عدم سفرها إلى «ليما سول».. وإلى الخطيب الذى ينتظرها هناك؟
الكواكب 1954
تعليقات الفيسبوك