اللهم إني صائم.. «طلعت حرب»: عالم «رايحة جاية» وشوارع مزدحمة والمحلات بلا زبائن.. «مرحب شهر الصوم»
الحركة لا تتوقف فى ميدان طلعت حرب رغم الصيام
انتصف نهار يوم جديد من أيام شهر رمضان، فتعامدت أشعة الشمس على تمثال «أبو الاقتصاد المصرى» طلعت باشا حرب، الواقف فى ميدانه الشهير بمنطقة وسط البلد، وبينما هو ساكن فى مكانه منذ عشرات السنين، تطل عليه هذه البنايات صاحبة الطراز المعمارى الأوروبى القديم، إلا أن الحركة من حوله لم تهدأ، فكانت الشوارع الأربعة المتفرعة من الميدان تصب فيه أناساً وتأخذ غيرهم بين الحين والآخر، فهذه سيارات تروح وتجىء، وهؤلاء مارة يقطعون الميدان ذهاباً وإياباً وهم على عجلة من أمرهم، وفى الميدان نفسه، كانت مشاهد اليوم حاضرة بملامح «رمضانية» بدت واضحة على وجوه الواقفين فيه.
فى الميدان كان أكثر ما يبحث عنه الواقفون ظلاً يحميهم من أشعة الشمس، فكما كانت المحلات المحيطة بالميدان ملجأ لأصحابها من الحر فى نهار رمضان، كانت كذلك الأشجار الصغيرة على أرصفة الميدان هى قبلة الواقفين فيه، فمن بين المترددين على الميدان، كانت تلك الفتاة التى بدت فى أوائل عقدها الثالث من العمر، جاءت من بعيد تتلفت بعينيها فى المكان، تبحث فيه عن ضالتها، وبعدما ارتد إليها بصرها خائباً أخرجت من حقيبة ظهرها الصغيرة هاتفها المحمول، قبل أن تجرى منه مكالمة لم تستغرق سوى ثوانٍ معدودة، أعادت بعدها الهاتف إلى مكانه، واتجهت إلى شجرة على الرصيف من الجهة اليمنى للتمثال، لتجلس أسفلها على ذلك السور الحديدى القصير مستظلة بها من حرارة الشمس.
بينما كانت الفتاة تشغل وقت انتظارها بتصفح هاتفها المحمول بعد أن أخرجته من حقيبتها مرة ثانية، كان فى الجهة المقابلة لها من الناحية الأخرى أحد أصحاب محلات الملابس يقف على باب محله المطل على الميدان، ويوجه أحد عماله الذى أخذ فى تنظيف المكان أمام المحل، مشهد كان متكرراً فى كثير من المحلات الأخرى، وكأن هذا الوقت من اليوم فى نهار رمضان خصص لذلك بعدما قلَّ البيع فيه، فأخذوا يجهزون أنفسهم لفترة ثانية من اليوم ستبدأ بعد ساعات سيكون فيها البيع أكثر بالنسبة لهم.
ركود البيع فى المحلات المطلة على ميدان طلعت حرب كان السمة المشتركة بين أغلبها، فى حين حاول بعضهم التغلب على ذلك ولو حتى بإضافة نشاط آخر إلى نشاطه الرئيسى، وهو ما كان واضحاً بالنسبة لهذا الشاب الذى اتخذ من أحد جوانب عمارات الميدان ظهيراً له خلف تمثال طلعت حرب، وقد جلس إلى جوار فرشة للكتب، وفى يديه مصحف يتلو منه بعض آيات القرآن الكريم، بينما وضع أمامه بضاعته التى بدت وكأنها مخصصة لهذه الأيام من السنة، علب من المخلل ذات أنواع مختلفة، تراصت فوق بعضها البعض، وبين الحين والآخر، كان يدخل بين مشترى الكتب، آخرون يتبادلون الحديث مع هذا البائع الشاب حول بضاعته الجديدة، ثم ينتهى الأمر بشراء واحدة من هذه العلب، يأخذها المشترى ويذهب بعيداً إلى أن يختفى عن أنظار الواقفين فى الميدان.
مركزية ميدان طلعت حرب جعلت منه واحداً من أهم ميادين منطقة وسط البلد، لذا كان ينظم حركة السير فيه فى هذا الوقت من اليوم، إلى جانب إشارات ثلاث فى اتجاهات مختلفة، رجلا شرطة مرور، كانا يتحركان بهمة ونشاط لا يناسب هذا الوقت شديد الحرارة من اليوم فى نهار رمضان، فيتناوبان على هذه الإشارات الثلاث ويتحدثان إلى بعضهما البعض أو إلى غيرهما من رجال المرور المنتشرين فى الشوارع المجاورة لهم عبر أجهزة اللاسلكى التى بحوزتهم، إلى أن انتهزا فرصة ليقفا إلى جوار بعضهما أسفل شجرة من الأشجار المحيطة بالميدان، تبادلا خلالها حديثاً تخللته ضحكات تلهيهما عن هذا الصخب من حولهما، وعن حرارة شمس نهار رمضان فى انتظار غروبها.
دقائق الراحة انتهت، وعاد رجلا الشرطة كل إلى مكانه، بعد أن استعادا ما لديهما من همة ونشاط مرة أخرى، فذهب أحدهما باتجاه الفتاة الجالسة على السور الحديدى القصير، بينما هى تقوم من جلستها لتقابل رجلاً غطى الشعر الأبيض رأسه، بدا أنه هو من كانت فى انتظاره، عندما اتجها معاً إلى أحد الشوارع المتفرعة من الميدان حتى غابا عن الأنظار، فى حين اتجه رجل الشرطة الآخر باتجاه صاحب المحل الذى انتهى عامله منذ قليل من تنظيف المكان، بينما جلس هو بعض الوقت أمام المحل يقلب عينيه فى المارة، قبل أن يقرر الدخول إلى المحل مرة أخرى هرباً من حرارة الشمس المتزايدة فى الخارج، فى وقت عاد فيه بائع الكتب والمخلل إلى جلسته مرة أخرى، بعدما فرغ من بيعة انتهت لتوها، ليمسك مصحفه بهدوء ويبدأ فى التلاوة بصوت خفيض وسط صخب لا يهدأ طيلة النهار.