قرى بلا عمدة كالجسد دون رأس.. واللجوء للقضاء لا يحسم النزاعات
«العمدة».. مهنة حل أغلب المشاكل المجتمعية
اختفاء العمدة ترك فراغاً كبيراً فى العديد من القرى، إما بعد ضمها إلى المدينة أو «البندر»، أو بسبب عدم صدور قرار رسمى بتعيين عمدة يشغل الكرسى الشاغر، أو بعد إنشاء نقطة شرطة بها، ما انعكس سلباً على حالة الاستقرار التى كانت تنعم بها هذه القرى لسنوات طويلة، هذا ما أكده عدد كبير من أهالى القرى التى أصبحت «بلا عمدة» فى حديثهم لـ«الوطن»، مشيرين إلى أن هذه القرى تشبه «الجسد دون رأس» وأن الفراغ الذى تركه خلو منصب العمدة أدى إلى زيادة كبيرة فى محاضر الشرطة بين الأهالى الذين يختصمون بعضهم البعض على أقل الأسباب، وبعد تراجع دور الجلسات العرفية التى كانت تحسم كثيراً من هذه الخصومات، ولم يعد أمام المتخاصمين سوى اللجوء إلى ساحات المحاكم، أملاً فى أن يستعيد أصحاب الحقوق حقوقهم المسلوبة، حتى ولو بعد حين.
أحمد نبيل العمدة، صاحب محجر بقرية «كوم القناطر»، التابعة لمركز أبوحمص بالبحيرة، التى أصبحت بدون عُمدة، بعد إنشاء نقطة شرطة بها، أكد أن اختفاء منصب العمدة أهدر فرصاً كثيرة للتصالح بين العائلات، حيث كان يتم تسوية المنازعات قديماً من خلال جلسات الصلح، التى كانت تُعقد فى دوار العمدة، ويكون المُحكّمون فيها من كبار العائلات، الذين لا يُرد لهم حُكم، وفى الغالب تكون الجلسة العرفية بمحضر رسمى من قبل الأمن، وهو ما يعطى للجلسة الجدية والالتزام.
أهالى البحيرة: إلغاء المنصب بعد إنشاء نقطة شرطة ترك الساحة لجلسات التحكيم مدفوعة الأجر.. وآخر عمدة لقرية "زهرة" بالمنيا توفى قبل 40 سنة.. وبعده تحولت إلى "وكر مخدرات"
أما «منصور عبدالجيد أبوحميدة» فقال: «أتذكر ما كان يدور فى منزل جدى العمدة، حيث ظلت العمدية فى عائلتنا على مدار سنوات طويلة، إلى أن تم إلغاؤها عقب إنشاء نقطة شرطة بالقرية، واقتصر الأمر الآن على شيخ البلد»، مشيراً إلى أن كلمة العمدة كانت مسموعة من الكبير والصغير فى القرية، وكان الأهالى يلجأون إليه فى فض النزاعات بينهم، بعد أن كان يعقد الجلسة العرفية فى مقر العمدية، على عكس ما يحدث اليوم، من متاجرة البعض بمشاكل الأهالى، من قبل بعض المحكمين العرفيين، حيث أصبح لكل نزاع «تسعيرة»، ويلجأ الأهالى إلى جلب محكمين من أصحاب السطوة والعزوة والنفوذ، ليمكنهم فرض ما يصدرونه من أحكام، غالباً ما تكون مدفوعة الأجر.
وفى محافظة المنيا، يعيش أهالى قرية «زهرة» وسط دائرة من المشاكل والصراعات تتفاقم يومياً دون بارقة أمل فى حلها، فبعد رحيل آخر عمدة للقرية قبل نحو 40 سنة، وإنشاء نقطة شرطة، تبدل حال القرية الهادئة الفقيرة، وأصبحت تشكل أكبر بؤرة ومستنقع لترويج المخدرات فى المحافظة، حينما تراجع دور العقلاء وكبار العائلات، الذين كانوا ينجحون فى احتواء أى أزمة تنشب فى وقتها.
«جمال عبدالمعز»، 48 سنة، من أبناء القرية، قال إنه حينما كان هناك عمدة فى القرية، كانت المشاكل محدودة، ولا يجرؤ أحد على الذهاب إلى قسم الشرطة لتقديم بلاغ ضد جاره، فكانت كل المشاكل والصراعات، ومعظمها مرتبط بأمور حياتية، كنزاع على حد يفصل بين الأراضى الزراعية المتجاورة، أو على قنوات الرى، أو نزاعات بناء، أو نتيجة قيام أحد الجيران بسكب المياه فى الشارع، كانت جميعها خلافات سرعان ما تنتهى بأقل مجهود، عندما يحتكم أطرافها إلى العمدة، ولكن بعد إنشاء نقطة الشرطة بالقرية، تفاقمت المشاكل، بعدما تلاشت قيم التسامح والاحترام بين الجيران وبين أبناء معظم العائلات، وفى غضون سنوات قليلة أصبحت القرية، وبدون أدنى مبالغة، أكبر بؤرة لترويج المخدرات، وسادت المشاكل والصراعات والمشاجرات بين جميع أبناء القرية، حتى خلافات الجيرة فى المنازل أو الأراضى الزراعية تفاقمت بصورة كبيرة، بعد اختفاء العمدة الذى كان وجوده كفيلاً بإنهائها فى لمح البصر.
واعتبر «عزت أبوالنصر»، عمدة قرية «شبراباص»، التابعة لمركز شبين الكوم بمحافظة المنوفية، أن «مصر تغيرت كثيراً خلال الـ10 سنوات الأخيرة، خاصةً بعد ثورة 25 يناير»، مشيراً إلى أنه تم إلغاء العمدية فى كثير من القرى وإنشاء نقاط للشرطة بها، ولكنه أكد فى نفس الوقت أنه رغم أهمية الوجود الأمنى للسيطرة على كثير من الأمور التى نجمت عن حالة عدم الاستقرار والانفلات الأمنى فى الفترة الأخيرة، إلا أن وجود العمدة كفيل بإحكام السيطرة على تلك الأمور، نظراً لأنه يمكنه الانصهار بين الناس، والاطلاع على كل صغيرة وكبيرة فى نطاق القرية، وبالتالى يمكنه التدخل لحل كثير من المشاكل بين أهالى القرية، دون اللجوء إلى أقسام الشرطة، بعكس ضابط الشرطة الذى يخدم فى النقطة، غالباً ما يكون من خارج القرية، ويقتصر دوره على تحرير المحاضر وإنفاذ القانون وفرض الأمن، وأمام القانون يحاول كل طرف إدانة الآخر بأى طريقة، حتى لو كانت غير مشروعة، مثل إحداث الشخص المعتدى إصابة لنفسه، ليحرر محضراً مقابل محضر الطرف المعتدى عليه، وفى النهاية يكون مصير الطرفين الحبس للعرض على النيابة، ثم تقديمهما للمحاكمة، التى عادةً ما تأخذ وقتاً طويلاً.
وأضاف «أبوالنصر» أن الجلسات العرفية التى يعقدها العمدة، والتى تتم الاستعانة فيها ببعض المحكمين من كبار العائلات، يمكنهم من خلال ما يمتلكونه من أدوات، استجلاء الحقيقة، وبيان ما هو حق وما هو باطل، مؤكداً أن هناك اختلافاً كبيراً بين القضاء العرفى والقضاء العادى، حيث ينظر الأول عادةً إلى رد الظلم عن المظلوم، وإعادة الحق إلى صاحبه، مثل تمكين أحد الدائنين من الحصول على أمواله من المدين، بينما فى القضاء العادى يصدر حكم بحبس المدين، ولا يحصل الدائن على شىء، واعتبر أن «القضاء العرفى يحكم بالفضل وليس بالعدل، الذى لا يحكم به سوى الله وحده»، بحسب قوله، وأن ما يحرص عليه المتخاصمون فى الجلسات العرفية هو حصولهم على حقوقهم المعنوية، قبل التعويضات المادية، التى كثيراً ما يتنازلون عنها بعد الحكم بتغريم الطرف الباغى.
وعلى عكس التوجه نحو إلغاء منصب العمدية فى بعض القرى، فقد اقترح عمدة «شبراباص» زيادة المهام الموكلة إلى العمدة، ومنها الأخذ برأيه فى تعيين «شيخ الخفر»، معرباً عن اعتقاده أنه من الأفضل أن يتم تعيين «شيخ الخفر» من غير الخفراء، وأن يكون منتمياً لعائلة كبيرة، وليس لمجرد أنه خفير قديم، حتى يمكنه أن يفرض سيطرته على باقى الخفراء بالقرية، وأضاف أن «شيخ الخفراء ومجموعته هم القوة التى يعتمد عليها العمدة، ويستطيع من خلالهم فرض سيطرته على الأوضاع فى القرية، مثل نقاط الحراسة والتأمين، وكذلك تأمين المدارس أثناء الامتحانات، ولجان الانتخابات، والتدخل فى وقت الأزمات»، مشيراً إلى أن هناك مشكلة أخرى تعانى منها كثير من القرى، تتمثل فى نقص عدد الخفراء، نتيجة وقف التعيينات الجديدة، وانتداب بعض الخفراء للعمل فى أقسام ومراكز الشرطة، وأوضح أن عدد الخفراء فى قريته حالياً لا يتجاوز 15 خفيراً، رغم أن عددهم فى السابق كان يصل إلى 75 خفيراً، خاصةً أن قرية «شبراباص» من القرى الكبيرة نسبياً، وتوجد بها وحدة محلية، وعدد كبير من المنشآت الحكومية والحيوية.