أيام الكحرتة فى حياة السادات: من الجيش إلى الشارع.. وبالعكس
«السادات» خلال جلسة محاكمته فى قضية اغتيال أمين عثمان
«وطنى وذكى ومغامر، يبحث عن المكسب بأى ثمن دون أن يخسر شيئاً».. هكذا وصف مؤرخون وكتّاب، الرئيس الراحل محمد أنور السادات، مؤكدين أنه كان نموذجاً للمواطن المصرى الوطنى، الذى انفعل بتطورات الأوضاع السياسية قبل ثورة 1952 وفى أثنائها وبعدها، وتعامل معها بذكاء شديد، فصنع أسطورته.
«السادات كانت له جوانب خفية فى شخصيته السياسية لم يعرفها البعض»، وفقاً للكاتب الصحفى «محمود صلاح»، موضحاً أن الرئيس الراحل تورط فى القضية التى عُرفت بقضية «الجاسوس الألمانى»، أو قضية «الراقصة حكمت فهمى»، التى كانت تُعتبر أشهر راقصة مصرية فى ذلك الوقت، التى جندها الألمان.
بدأت حكاية الراقصة حين تعرفت على شاب وسيم يُدعى «حسين جعفر»، فى أحد ملاهى «فيينا»، ورغم قصة الحب التى كانت تربط بينهما، إلا أنها لم تكن تعلم أنه ضابط فى المخابرات الألمانية، ويُدعى «إبلر»، حتى اختفى من حياتها، وبعد نشوب الحرب العالمية الثانية، عادت «حكمت» إلى القاهرة لترقص فى «كازينو بديعة مصابنى»، ومنه انتقلت إلى ملهى «الكيت كات»، لتفاجأ بعودة جعفر، بعدما تمكن من التسلل عبر الصحراء إلى القاهرة، مع زميل له يُدعى «مونكاستر»، لتنفيذ عملية «كوندور»، التى أطلقتها المخابرات الألمانية لمساعدة القائد الألمانى «روميل» بمده بالمعلومات عن البريطانيين، فى معركته الحاسمة المنتظرة ضد جيوش الحلفاء فى شمال أفريقيا عند «العلمين».
محمود صلاح: راقصة وجاسوس ألمانى أبعداه عن الجيش.. ومؤسس «الحرس الحديدى» أعاده وعاصم الدسوقى: ذهب إلى السينما ليلة الثورة وحرر محضراً بعد خناقة مفتعلة مع أحد المشاهدين
ووفقاً لـ«صلاح» فـ«كره الراقصة للإنجليز منذ طفولتها» كان سبباً كافياً بالنسبة لـ«إبلر» لمصارحتها بمهمته السرية، فوجدتها فرصة للانتقام وقررت مساعدته فى توفير مسكن له وصديقه بإحدى العوامات على النيل، وأمدتهما بالمعلومات، التى كانت تحصل عليها من المعجبين بها من القادة البريطانيين وهم سكارى.
وأضاف «صلاح»: «فى أحد الأيام، تعطل الجهاز اللاسلكى الذى كان يستخدمه الجاسوس الألمانى فى نقل رسائله إلى روميل، وطلب من حكمت مساعدته فى إصلاحه، فاستعانت بضابط مصرى ثائر يكره الإنجليز مثلها، وكان أنور السادات نفسه».
فى اليوم التالى توجه «السادات» إلى عوامة الجاسوس الألمانى، لإصلاح جهاز اللاسلكى المعطل، وحمله إلى بيته فى كوبرى القبة، وبعد أيام انكشف أمر الخلية، وتم القبض على «إبلر» وزميله والراقصة، ونقلهم إلى سجن الأجانب، ثم طلبت المخابرات الإنجليزية القبض على «السادات» بتهمة التعاون مع الجاسوس الألمانى، لكن المحققين لم يتمكنوا من إثبات التهمة عليه، حسبما يؤكد «صلاح».
كان لتورط السادات فى قضية «حكمت فهمى» والجاسوس الألمانى نتيجة غير مرضية له، فقررت القوات المسلحة فصله من العمل فيها كضابط فى سلاح الإشارة، مما اضطره إلى الاتجاه للعمل الحر، وفقاً لكلام جمال شقرة، أستاذ التاريخ المعاصر، ومقرر لجنة التاريخ بالمجلس الأعلى للثقافة، مضيفاً: وبعد ذلك التقى بالقائد «حسن عزت»، الذى كان له نشاط حر فى التجارة، وعمل معه كـ«عتال» على سيارة نقل، وفى أواخر 1944 انتقل إلى بلدة أبوكبير بالشرقية، ليعمل «فواعلى» فى مشروع ترعة رى.
ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 سقطت الأحكام العرفية، وتمكن السادات من العودة إلى بيته فى القاهرة بعد ثلاث سنوات من المطاردة والحرمان.
لم يتوقف نشاط «السادات» قبيل ثورة 1952 عند هذا الحد، وفقاً لكلام الدكتور عاصم الدسوقى، أستاذ التاريخ الحديث، فبعد حادثة 4 فبراير 1942، التى فرض فيها الإنجليز على الملك فاروق التوقيع على قرار استدعاء مصطفى باشا النحاس، رئيس حزب الوفد، لتشكيل الحكومة بمفرده أو التنازل عن عرش مصر، سعى الملك إلى الانتقام، وطلب من طبيبه الخاص يوسف رشاد تكوين تنظيم سرى من الضباط المخلصين لحمايته والدفاع عنه.
ويضيف «عاصم» أن رشاد شكّل تنظيماً أطلق عليه لقب «الحرس الحديدى»، الذى كان يضم عناصر قوية قادرة على حمل الأسلحة من ضباط الجيش المصرى، ومن بينهم أنور السادات، موضحاً أن أول عملية للتنظيم كانت اغتيال أمين باشا عثمان، وزير المالية فى حكومة النحاس، لأنه كان صديقاً لبريطانيا، ومن أشد المطالبين ببقاء القوات الإنجليزية فى مصر، وصاحب تصريح «العلاقة بين مصر وبريطانيا مثل الزواج الكاثوليكى لا طلاق فيه».
ويستطرد: نجح التنظيم فى عمليته الأولى، وتمكن حسين توفيق من اغتيال أمين عثمان، وأُلقى القبض على السادات، لكن الملك فاروق تدخل لتبرئته أمام المحكمة، ولعدم وجود دليل على تورطه فى تلك القضية، لم تقضِ المحكمة بسجنه.
ويشير إلى أن السادات تمكن من العودة إلى صفوف الجيش المصرى مرة أخرى فى عام 1950، بعد تدخل يوسف رشاد، موضحاً أن السادات تحدث معه عن رغبته فى العودة إلى الجيش مرة أخرى، لأنه تعب من العمل الحر، فنصحه بالذهاب إلى إحدى العمارات، التى تبتعد قليلاً عن نادى السيارات لانتظار الملك، الذى كان يلعب القمار فى النادى بشكل دائم، وأنه سيقنعه بإعادته.
وبالفعل عاد السادات إلى صفوف الجيش المصرى، وفى تلك الفترة كان الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، يشكل تنظيماً عُرف فيما بعد بـ«تنظيم الضباط الأحرار»، وهى حركة سلمية أخذت شكل الانقلاب العسكرى، استعان فيها عبدالناصر بعدد كبير من ضباط الجيش، ومن بينهم أنور السادات، الذى كان على علاقة قوية ببعض رجال الملك، وضمه إلى اللجنة التنفيذية للتنظيم.
رغم أن «السادات» كان على دراية بموعد تجمع الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار، لتحديد الخطة النهائية للثورة، إلا أنه توجه برفقة زوجته جيهان إلى السينما لحضور حفل التاسعة مساء، بحسب «عاصم» الذى أوضح أن السادات حينها افتعل خلافاً بينه وبين أحد الحاضرين بالسينما وصمم على تحرير محضر له فى قسم الشرطة، رغم اعتذار الرجل أكثر من مرة.
وأضاف: «يُقال إن السادات افتعل تلك الواقعة ليحمى نفسه فى حالة فشل الثورة، وإن المحضر الذى حرره وقتها كان أكبر دليل على عدم وجوده مع التنظيم فى ذلك الوقت، لكن الثورة نجحت فى إجبار الملك فاروق على التنازل عن عرش مصر ثم رحيله إلى إيطاليا».