الصعايدة ضحايا الكبت وانغلاق المجتمع وغياب الوعى: الضغط يولد الانفجار
مشرد يفترش الرصيف
تتّخذ الأمراض النفسية من محافظات الصعيد وقراها موطناً لها، تلقى بظلالها على المارة بالطرقات، تنجح فى الإيقاع بالأضعف من بينهم على الصمود والمواجهة، يعاونها تدنى الأحوال الاقتصادية وصعوبة الظروف المعيشية وكثرة تحديات الحياة وضغوطها، بالإضافة إلى تفشى الجهل، فيظل المرض طى الكتمان، حتى يتفاقم ويصل إلى مراحل متقدّمة.
مدرس شاب ينتمى إلى محافظة أسيوط أصيب بمرض نفسى، بسبب عدم تقبّله فكرة الحرمان من الإنجاب، مجتمعه الصعيدى يفرض عليه «عرفاً» الإنجاب بعد 9 أشهر بالتمام والكمال، وعندما عجز عن ذلك، أصيب بضغط نفسى تحول مع الوقت إلى مرض. يروى شقيقه قصته، قائلاً: «أخى أصيب بمرض نفسى، واحتجز بقسم الأمراض النفسية بمستشفى أسيوط الجامعى، بسبب ازدياد المشاكل بينه وبين زوجته، لعدم حدوث إنجاب رغم مرور سنوات على زواجهما».
لم يكن «و. م. ح»، شاب من مركز القوصية، يعانى من أى مشاكل فى حياته، وكان من أوائل الثانوية العامة، والتحق بكلية الطب جامعة أسيوط، فوجئت أسرته بعد تخرجه بتحوله إلى شخص آخر، وبالكشف عليه فى مستشفى الصحة النفسية بأسيوط، تبين أنه يعانى من انفصام فى الشخصية، وهو مرض نفسى استدعى حجزه فى المستشفى للعلاج.
مشردون منتشرون فى كل مكان.. وبلاغات رسمية لإيداعهم فى مصحات
فى محافظة المنيا، يزداد الأمر سوءاً، فالمرضى النفسيون ينتشرون فى شوارع عروس الصعيد، وحسب ما جاء فى إحصاءات الأمانة العامة للصحة النفسية، فإن المنيا الأكثر إصابة بالأمراض النفسية، وحسب ما قاله حسام زيدان، أحد سكان شارع عدنان بمدينة المنيا، فإنه يشاهد يومياً مريضة نفسية تسير عارية لا تؤذى أحداً من المارة، لكنها تتعرّض للأذى من البعض.
فى شارع الحسينى بالمدينة نفسها، يجلس «باسم» عارياً على أحد الأرصفة، يجوب شوارع المدينة دون أن يخفى عورته، خادشاً حياء المارة، حاول أهالى المنطقة، ومنهم جمال أحمد، إيداعه بإحدى المصحات أو دور الرعاية النفسية والتعامل معه، لكنهم فشلوا.
وفى شارع عدنان، شكا الأهالى من وجود مريضة نفسية تجلس عارية فى منتصف الشارع، تثير الذعر والفزع بين السيدات والأطفال وأحياناً تقوم بأعمال عنف، وهو ما دعا العميد أشرف جمال، عضو لجنة الدفاع والأمن القومى بمجلس النواب، إلى تقديم بلاغ رسمى للمحامى العام لنيابات جنوب المنيا، لإيداع الحالتين فى مصحة نفسية للعلاج، لأن وجودهما طليقين يهدد الأمن والسلم العام.
يُرجِع الدكتور منصف محفوظ، مدير مستشفى الطب النفسى بالمنيا، السبب الأساسى فى انتشار هؤلاء المرضى فى الشوارع إلى القانون، فليس من حق أى شخص إيداع مريض نفسى بشكل إلزامى بمستشفى الطب النفسى إلا النيابة العامة، أو أهل المريض، ولكى يتم إيداعه من خلال النيابة يجب أن تلقى الشرطة القبض عليه، وهنا تظهر مشكلة أخرى، حيث يصبح المريض الذى يتم تسليمه فى ذمة الشرطة، ويكون أحد رجالها مسئولاً أن يأخذه من المستشفى، وهذا يشكل عبئاً على الشرطة، كما أن دور الرعاية التابعة للتضامن الاجتماعى قليلة، ولا تقبل المرضى النفسيين.
المنيا أكثر المحافظات إصابة بالاضطرابات النفسية.. وقنا بلا مصحات رغم انتشار المرض
الدكتور سمير محمد منير، مدرس الأعصاب بكلية طب المنيا، من واقع خبرته فى التعامل مع المرضى النفسيين خلال سنوات عمله يرى أن معظم المرضى يعانون من أعراض يسهل علاجها والحد من انتشارها، ويسهل إنقاذهم من بعض أمراض التمثيل الغذائى، ونقص هرمون الغدة الدرقية، التى تؤدى إلى تخلف عقلى شديد وتؤثر بالسلب على المريض والأسرة والمجتمع، بينما يمكن اكتشافه مبكراً جداً، خاصة بالنسبة لحديثى الولادة من خلال إجراء عدة تحاليل وإنقاذ الطفل بالعلاج سريعاً، وأولى الخطوات للقضاء على هذه الظاهرة عمل مسح شامل لأمراض التمثيل الغذائى للأطفال عن طريق وزارة الصحة واستقصاء لبعض الأمراض الوراثية والتمثيل الغذائى المسبّبة للإعاقة الذهنية، منوهاً بأن المجتمع فى حاجة لزيادة الوعى، لأن المرضى النفسيين يواجهون الكثير من التمييز ضدهم والعنصرية والإهمال والاستغلال، ويجب أن تخصّص لهم برامج تعليمية وتأهيلية خاصة لدمجهم فى المجتمع بشكل فعال وإيجابى.
فى قنا، يبدو المرض النفسى أكثر بروزاً بسبب غياب الوعى به، لكن الغريب أن المحافظة الجنوبية بلا مصحات أو عيادات نفسية، وحسب الدكتور محمد هابيل، أحد أبناء مركز أبوتشت، والمدرس المساعد بقسم المخ والأعصاب والطب النفسى بمستشفى جامعة أسوان، فإن محافظة قنا بها عدد كبير من المرضى النفسيين متخفين وسط أسرهم والمجتمع، ولا أحد يعلم عنهم شيئاً، بعضهم يذهب لمراكز الصحة النفسية فى القاهرة أو أسيوط أو أسوان، لوجود مستشفيات صحة نفسية، مضيفاً أن بعضهم يذهب للعلاج فى العالم الموازى، إما بالقرآن أو عن طريق الدجالين والمشعوذين، الذين يجنون أموالاً كثيرة من وراء أسر المرضى النفسيين.
وحكى «هابيل» أنه افتتح عيادة فى محافظة قنا قبل الانتقال إلى أسوان، وكان عدد المرضى النفسيين الذين يتردّدون على العيادة ضئيلاً جداً لا يكاد يذكر، وعندما عمل أثناء التدريب فى مستشفى أسيوط كان يتردد على المستشفى مرضى كثر من قنا: «قنا تفتقر إلى مستشفى صحة نفسية رغم أن بها عدداً كبيراً من المرضى، وهناك ضرورة لوجود مصحة تفيدهم، لأنه توجد جلسات لا يمكن عملها إلا فى مستشفى متخصص».