«العزازمة».. ولاؤهم لمصر وإن منحتهم اعترافا منقوصا و«تذكرة مرور» وخانة «غير معين الجنسية»
بدت أحداث المشهد مزدحمة بالتفاصيل الكثيرة التى تستلزم الانتباه التام لمتابعتها: أصابع الشيخ سالم سويلم، شيخ قبيلة العزازمة التى تسكن منطقة الجايفة بشمال سيناء والبالغ 70 سنة، تمتد فى حذر للجيب العلوى لجلبابه الأبيض، وتستخرج منه ورقة مهترئة يعرضها، وهو يقول «دى صورة بطاقة عمتى، كان معاها الجنسية المصرية»، يطوى الورقة فى عناية فائقة ويعيدها مرة أخرى لمكانها، ثم يمد يده مرة أخرى لنفس الجيب ويخرج جواز سفر أزرق اللون مكتوبا عليه من الخارج «تذكرة مرور». يفتح صفحته الأولى ويشير بإصبعه حيث عبارة مدونة إلى جوار صورته الشخصية «غير معيّن الجنسية»، يهتف بصوت عال لا يتناسب مع سنه المتقدمة قائلاً بلهجة بدوية: «كيف تكون عمتى مصرية، وأنا اتولدت وعشت عمرى كله هنا ومحرّم علىّ إنى آخد الجنسية المصرية؟».
لم تحرّم الجنسية المصرية على الشيخ سويلم وحده، وإنما حُرّمت على أكثر من 1500 شخص ينتمون جميعاً لقبيلة العزازمة، أو بمعنى أصح فرعها الذى يسكن منطقة الجايفة التابعة لمركز القسيمة بمحافظة شمال سيناء. وطبقاً لموسوعة ويكيبيديا فإن منازل قبيلة العزازمة تمتد من بئر السبع فى فلسطين حتى وادى عربة وحدود سيناء. وتقع بين أراضى قبائل التياها والترابين، ويعيش جزء من أبناء القبيلة فى الأردن. وطبقاً لنفس الموسوعة فإن العزازمة ينتسبون لعزام بن كلب الذى يعود بنسبه إلى يعرب بن قحطان أصل العرب.
ورغم أن سيرة القبيلة الحافلة كان من الممكن أن تجلب لفرعها الذى يعيش فى مصر حياة هنيئة، فإن واقع الحال لا يقر ذلك، فأكثر من ثلاثة أرباع الفرع يعيشون أوضاعاً صعبة فى قريتهم التى تقع على الحدود المصرية الإسرائيلية جنوب العريش بـ100 كم تقريباً، دون جنسية مصرية، ودون مياه، أو كهرباء، أو تعليم، وكذلك دون رعاية صحية، وعلى من يمرض أو تصيبه وعكة أن يعالج نفسه بالطب الشعبى، أو يستقل سيارة إلى مدينة العريش حيث يتلقى الخدمة الطبية هناك.
وللوصول لمضارب القبيلة يجب استخدام سيارة جيب تقطع الطريق الأسفلتى الممتد بين العريش والجايفة فيما يقرب من ساعة ونصف. يتخلل الطريق بعض التجمعات البدوية والقرى الصغيرة، بالإضافة إلى قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة التى تنصب معسكرها على الطريق، وفى نهاية الرحلة تظهر مضارب القبيلة من بعيد على الشريط الحدودى مع إسرائيل فى صورة تجمع سكنى صغير، ما إن يقترب الزائر حتى يكتشف أن التجمع ليس أكثر من عدة منازل منخفضة من طابق واحد تنتشر فى مساحة صغيرة للغاية، وعلى بعد أمتار قليلة تلوح نقطة أمنية إسرائيلية فيما الحدود مفتوحة لا يفصل بينها سلك شائك كما هو الوضع فى نقاط أخرى.[Image_2]
ربما تسبب مكان سكن القبيلة فى حرمانها من الجنسية المصرية، فكما يقول سالم سويلم شيخ القبيلة فإن الحكاية تعود لتاريخ نكبة فلسطين عام 1948 عندما أعلنت إسرائيل قيام دولتها، وطاردت الفلسطينيين حتى خارج الحدود، فلجأ عدد منهم إلى الشريط الحدودى لمصر، حيث تسكن قبيلة العزازمة بمنطقة الجايفة على الحدود، وهناك كانت منظمات الإغاثة الدولية تطرق أبواب اللاجئين كل صباح لتوزع عليهم معونات ومواد تموينية. ورغبةً فى الحصول على حصة من تلك المواد التموينية كانت نساء العزازمة يدعين أنهن مهاجرات، وبعد أن استقرت الأوضاع، وغادر اللاجئون الشريط الحدودى إلى داخل مصر، ظن العزازمة أن الموضوع انتهى، غير أنهم فوجئوا، عندما أرادوا أن يسجلوا أنفسهم فيما بعد فى أوراق الحكومة، أن الحكاية التصقت بهم، وإذا بالحكومة المصرية ترفض الاعتراف بهم كمواطنين مصريين، وتمنحهم لقب «غير معيّن الجنسية» ليلازمهم منذ ذلك التاريخ. «النسوان أخدوا شوال الدقيق عجنوه وكلوه، واحنا شلنا الطين بعدهم»، هكذا يختم الشيخ سالم قصته وهو يعيد بطاقته الزرقاء إلى جيب جلبابه.
وسط منازل العزازمة القصيرة يقف عيد عطية 37 سنة، أحد أبناء قبيلة العزازمة، يشير إلى المنازل قائلاً: «البيوت دى كلها جديدة، الحكومة سمحت لنا نبنيها سنة 99 قبلها كنا عايشين فى بيوت شعر وعشش صفيح وخيام». لم يكن تصريح الحكومة لأبناء العزازمة ببناء منازل من الطوب والمسلح إلا محاولة منها لاسترضائهم، بعد أن هددوا جميعاً باللجوء لإسرائيل فى أعقاب حادثة وقعت لهم يرويها عيد بقوله: «الشرطة طبّت علينا وضربتنا وبهدلتنا واتهمتنا إننا مهربين، يعنى ولا جنسية ولا كرامة، فقلنا نروح إسرائيل، ورحنا فعلاً ووقفنا على الحدود». لم يكن الوقوف على الحدود والتهديد باللجوء لإسرائيل إلا محاولة للتهويش كما يقول عيد، فلم يكن لدى العزازمة أى نية فى ترك مصر «مصر وطنَّا، اتولدنا وعشنا وهنموت فيها، ومشكلتنا مش مع مصر، مشكلتنا مع الحكومة اللى مش عايزة تدينا الجنسية».
يعود عيد للحكاية قائلاً إن حركة التهديد باللجوء لإسرائيل انطلت على الحكومة المصرية، فإذا بها تتحرك بكامل طاقتها، وتجتمع بأبناء القبيلة لتتعرف على مشكلاتهم، وتسمح لهم ببناء المنازل بعد أن كان محرماً عليها أن يضعوا قالب طوب فى المساحة التى يعيشون بها، ووضعت جدولا زمنيا لبناء مدرسة ومركز طبى، ورغم أنهم لم يفوا بوعدهم فيما يتعلق ببناء المدرسة، فإنهم بنوا المركز الطبى، لكنه ظل حتى هذه اللحظة خارج الخدمة.
على مدخل المركز الطبى المهجور علقت لافتة (وزارة الصحة والسكان محافظة شمال سيناء وحدة صحة المرأة بقرية الجايفة وادى اللصان)، هى العلامة الوحيدة على وجود مركز طبى فى قرية الجايفة، فيما عدا ذلك فجميع الأجهزة الطبية الحديثة ومعامل التحليل والمكاتب والأثاث الحديث كلها مشوّنة فى الطابق الثانى للوحدة الطبية منذ افتتاحها للعمل سنة 2003. أما الطابق الأول فتغطيه الأتربة، وتزحف العناكب على جدرانه رغم احتفاظه بحالته الجيدة، ويقول عودة سويلم، 35 سنة، أحد أبناء القبيلة، إن المركز الطبى منذ أن تم بناؤه لم يزره طبيب واحد، أما أبناء القرية الذين يمرضون فيتوجهون للعريش.. «لو واحدة ست بتولد تنزل العريش ويمكن تموت فى السكة من طول المسافة».[Quote_1]
حل أبناء القبيلة مشكلتهم مع المركز الطبى، لكنهم لم يستطيعوا أن يحلوها مع المدرسة، فأبناؤهم المحرومون مثلهم من الجنسية المصرية، محرومون بالتبعية من التعليم فى مدارس الحكومة على اعتبار أنهم غير مصريين، لا أحد هناك حاصل على شهادة حتى الكبار منهم، والوحيد الذى يعرف القراءة والكتابة يتولى تعليم أطفال القبيلة مقابل أجر رمزى يدفعونه له كل مدة.
«أنا اتعلمت على حساب الناس، وزى ما اتعلمت باعلم العيال»، يتحدث جمعة سويلم، 45 مدرس القبيلة، يقول إنه لا يعرف الكثير، ولكنه يستطيع أن يعلم الأطفال مبادئ القراءة والكتابة والحساب، وإن هذه المبادئ لا تمنحهم فى أحوال كثيرة لقب «متعلمين». يلقى عيد باللائمة على الحكومة التى وعدتهم من قبل ببناء مدرسة، وتحويل قريتهم إلى قرية نموذجية، بالإضافة إلى الوعد الخالد بمنحهم الجنسية المصرية. «أنا نفسى آخد الجنسية المصرية عشان أحس إنى مصرى كامل الأهلية»، أما ابنه الوحيد الذى يبلغ من العمر 8 سنوات فيأمل أن يحصل على الجنسية المصرية بحكم القانون الصادر فى عام 2004، الذى يمنح أبناء المصرية جنسية أمهاتهم «أنا متجوز من الشرقية وزوجتى عندها الجنسية المصرية وعندى أمل إن ابنى ياخدها من أمه».
يفتح كلام جمعة الحديث على طريقة توثيق الزواج فى القرية يقول سليمان عيد35 سنة: «الجواز هنا عرفى، لأن الزوج فى العادة مش معاه جنسية محددة»، وفى حالة الإنجاب «بنسجل أولادنا عند الحكومة بس فى حالة واحدة لو أمهم معاها الجنسية المصرية»، وإذا كانت الأم من العزازمة «يفضل أولادنا من غير تسجيل لغاية ما يكملوا 16 سنة»، وقتها فقط «نستخرج لهم تذكرة مرور زينا، ونجدد لهم الإقامة كل سنة بـ120 جنيه»، وإذا حدث ولم يتم تجديد الإقامة «لو اتمسكنا عند أى نقطة تفتيش ندفع غرامة 400 جنيه».
يواجه سليمان مشكلة الجنسية كلما فكر فى الخروج إلى أى مدينة قريبة «مسكونى مرة عند نويبع وما رضيوش يدخلونى جوة عشان مش معايا بطاقة شخصية والجواز مكتوب فيه غير معين الجنسية، واتحجزت فى الكمين 8 ساعات لغاية ما الرد جه من المخابرات إنى من العزازمة». أما سلمان سالم 60 سنة، فلا يستطيع تحقيق حلم حياته بأداء فريضة الحج بسبب عدم امتلاكه جنسية معروفة «نفسى أحج قبل ما أموت، مش عايز حياتى تروح منى وانا قاعد هنا ما خرجتش ولا يوم».
حال صغار السن لا يختلف كثيراً عن حال الكبار، فعطا الله، 20 سنة، يحلم هو الآخر بالسفر خارج مصر، ولا يمنعه إلا عدم وجود الجنسية، وكغيره من شباب القرية لم يتعلم، ومثله تماماً محمد سلامة، 15 سنة، الذى لم يدخل مدرسة كما يقول، وإن كان يحلم بالحصول على الجنسية المصرية حتى يتمكن من الحصول على فرصة عمل ينفق منها على والده الذى قال إنه عجوز لا يقوى على العمل.
فرص العمل فى القرية شحيحة وضئيلة للغاية، هم يقولون إنهم يعملون فى التجارة بين القرى بسياراتهم نصف النقل، ويرفضون اتهام بعض القبائل لهم بعدم الولاء لمصر بسبب اقتراب مساكنهم من إسرائيل، يقول عيد عطية: «والدى كان من حرس الحدود الوطنى اللى عمله عبدالناصر، كيف يقولون إن ما عندنا ولاء»، تزعجهم الكلمة للغاية فيتابع عطية: «ولاءك بيكون للوطن اللى اتولدت وعشت وهتموت فيه، واحنا اتولدنا وعشنا وهنموت هنا».
لا يكف أبناء العزازمة عن الحلم بالحصول على الجنسية المصرية خاصة بعد الثورة وتغير الأوضاع، ورغم أن رد الداخلية على طلبهم الأخير بالحصول على الجنسية والذى صدر فى العام الماضى جاء مخيباً لآمالهم، حينما كتب اللواء منصور العيسوى فى رده عليهم: «إن الجنسية المصرية لا تُمنح إلا فى حالتين، إما أن يكون الطالب ابناً لمصرية، أو بحكم قضائى من المحكمة». يطاردهم الحلم، ولا ييأسون من تحققه فى ليلة مباركة.
أخبار متعلقة:
«البطاقة المصرية».. حلم مفقود.. وورقة ممزقة فى سيناء
«الحماضة».. الخلاص من ظلم الوطن بـ«تقطيع البطاقة» والتنازل عن الجنسية