رسالة الشافعى.. إرث «الإمام» أسيراً «الحلقة الأولى»
الإمام الشافعي - صورة تعبيرية
ألف عام مضت، نالت من المخطوط نيلاً لا لين فيه، بطشت به وعصفت، أحرقته وأغرقته، نثرته وبعثرته، شرقته وغربته، هجرته وشردته، سقط يوم سقوط بغداد، القدس، حلب والأندلس، وضاع وانتُهب، فى مُدن كانت حُبلى بالحضارة مُفعمة بالتاريخ، نُكب العرب فى تراثهم لانفراط عقده وتناثر شذراته ودرره ولآلئه، بعدما حُمل إلى عواصم لا تتكلم لغته، فصارت مركزاً له، فلا يكاد ينفذن إلى الشرق أحدُ إلا وكانت فى الغرب قبلته.
من بين مئات الآلاف من المخطوطات العربية التى تفرقت بين المصيرين، مخطوطتان للإمام الشافعى، ثالث أئمة الفقه الأربعة، عُرفتا باسم «الرسالة»، صنف أولاهما شاب فى مكة، أصل الإسلام ومهبط الوحى، وبعث بها إلى حاضرة «العباسيين» بغداد، وأعاد تصنيف الثانية بعد أن وفد مصراً سنة 199 هجرية، طالت الأولى نيران مكتبة بغداد الأشهر «دار الحكمة» ليلة سقوط عاصمة الخلافة فى قبضة التتر، فيما ظلت الثانية فى مصر، يتناقلها الناس بالميراث وغيره، إلى أن سُرقت من دار الكتب المصرية التى أُودعت فيها، ليتفرق بذلك إرث «الإمام» بين الإحراق والاستلاب.
«الوطن» وبعد مرور أكثر من 16 سنة على اختفاء مخطوط مؤسس علم أصول الفقه، نبشت القديم المُهمل المنسى من فاجعات تراثنا المسلوب، ونفضت التراب عن مآسى مخطوطنا المنهوب، فاقتفت أثر الضائع المفقود، وأعادت جمع الهين المتناثر من الشهادات والروايات، فى مسعى لمعرفة كيف اختفت وإلام صارت واستقرت وانتهت، فتشنا فى المصادر التاريخية عن المخطوطة، نقبنا فى المكتبات والصالات ودور المزادات، سألنا تجاراً وربما لصوصاً، وثقنا لشهادات أكدت اختفاء المئات من مثيلاتها من دار الكتب المصرية خلال أربعة عقود مضت، وقفنا على الكارثة أدركنا عِظمها، فى تحقيق استغرق نحو ستة أشهر، وقد سلكنا فى ذلك مسالك كثيرة، كاشفين الكثير ممن أراد له البعض أن يظل مستتراً، نفصح عن تفاصيله فى السطور التالية.
«الوطن» تروى جانباً من مآسى المخطوطات العربية فى 1000 عام وتخوض رحلة للبحث عن إحدى الرسائل المفقودة منذ 16 عاماً
بين شقى الرحى، دار المخطوط العربى، عبر التاريخ، بين رحى أتون الحروب، ورحى فِخاخ اللصوص، لم يسلم من الاستهداف، وقد علق بين مصائر، أقصاها ليس بأدنى من أدناها قتامة، وقد جرت عليه من مصائب الدهر ونوائبه، ما يعظم على الأسماع سماعه، ويشق على الناس استقباله إلا بعُبوس الوجه وضيق الصدر.
سقط التراث تشتت، وضاع أغلبه، وسيقت مئات الآلاف من مخطوطاته إلى عمليات إعدام تاريخية منظمة، كانت تُجرى بمراسيم ملكية وبقرارات من محاكم التفتيش، ولم يسلم ما بقى من السرقة، فحُمل ووُزع بين مكتبات الغرب، فلم تعد بغداد ودمشق وحلب والقدس خزانات للمخطوطات، فقد خَوت بما سبق أن حَوَت، لتمتلئ عوضاً عنها مكتبات لندن، الإسكوريال، الفاتيكان، الأناضول، قُم، موسكو، وبرلين، ضاع تراث العرب فيما كانوا هم أصحاب فضلٍ فى وصول التراث اليونانى إلى الغرب عربياً، منسوباً لمؤلفيه الأصليين، دون سطوٍ أو ازدراء أو تجاهل للآخر.
ظلت المخطوطة مجهولة الصاحب حتى أواخر القرن الرابع الهجرى وتنقلت بالميراث وغيره قبل أن تستقر فى مكتبة سراى الأمير مصطفى باشا فاضل فى «درب الجماميز».. وآلت ملكية المخطوطة إلى الخديو إسماعيل فأودعها «الكتبخانة» بحى باب الخلق قبل انتقالها على ظهور عربات «الكارو» إلى المقر الجديد لدار الكتب المصرية فى «رملة بولاق».. وتاجر مخطوطات عرض على محرر « » إحداها بـ300 ألف جنيه وآخر رجح فرضية تهريب «الرسالة» إلى الخارج: اللى هيملكها هيعمل بها إيه هنا فى مصر؟!
ضم التراث العربى مخطوطات فى القرآن وتفسيره، والحديث وعلومه، والفقه ومذاهبه وفروعه، والعقيدة وفرقها، والقراءات وطرقها، والسيرة وأطوارها، والمغازى وخططها، والتاريخ وعصوره ورجاله، والطب وأدويته، واللغة ومعاجيمها، والتربية وأصولها، والجغرافيا وأقاليمها.
فى حلب الشهباء، همَت شمس المدينة المُفعمة بالتاريخ بالأفول آذنة بسواد ليل طويل يجثم على أنفاسها، بينما تقترب خيل جُند الإمبراطور البيزنطى نقفور فوقاس مُحدثة بقرع حوافرها وصهيلها صخباً عظيماً، فيما المدينة التى عُرفت خزانة للكتب، وأتقن أهلها النسخ والخط والتجليد والتذهيب، وعُرفت فخذاً من بطون التراث العربى، تترقب الموت يدنو مع قرب اجتياح جُند الإمبراطور، بعد هزيمة سيف الدولة الحمدانى فى سنة 351 هـ، هناك دهم الجُند المدينة، واستباحوا أهلها ومكتباتها، لثمانى ليال، شلالات الدماء غطت الأزقة، فيما علا نحيب النساء وبكاء الغلمان يعانق صليل السيوف، وقد طال البطش نفائس المخطوطات التى أُحرق منها الآلاف، قبل أن يُصلب ولى خزانة الكتب ثابت بن أسلم.
خَوت مكتبات حلب الحمدانية، وأبقى على حجارتها وعمدانها الإمبرطور البيزنطى، ليُجهز عليها من بعده هولاكو بمجانيقه ذات كُرات اللهب، سنة 659 هـ، مُستكملاً ما بدأه سلفه البيزنطى، فيُفرغ ما تبقى وما أُضيف إليها من ذخائر المخطوطات فى مواقد النار وبطون الأنهار، وما لبثت أن حُيت المدينة بشروق السنون وغروبها، حتى أعاد عليها الكَرة التترى «تيمورلنك» فى سنة 803 هـ، فأشعل فيها النار أياماً وليالى، وأدار فى أهلها القتل، وخرب مكتباتها وأفرغ خزاناتها، تحذو فى ذلك حذو مكتبات طرابلس الشام صاحبة المائة ألف مخطوط، التى جرى إحراقها فى زمن الحملة الصليبية الأولى، وكان إلى قاع النهر مستقرها ومستودعها.
بغداد هى الأخرى كانت على موعد مع الموت، وقد سُورت المدينة من كل جانب، فى سنة 656 هـ، ونُصبت المجانيق والعرادات وغيرها من الآلات، وأحاط التتر بدار الخلافة، يرشقونها بالنبال من كل جانب حتى أصيبت، غير أن كثيرين من الغزاة الهمج لم يُسر بشموخ مكتبتها المعروفة بـ«دار الحكمة»، فكانت المكتبة شاخصة، ترمقهم بثقلها المهول، فاضحةً فراغهم الأجوف، هناك همَّوا بدفن عقدتهم الحضارية، ولم يجدوا أفضل من قبس من نار قلوبهم يُحرقون به المكتبة، فاشتعلت وعظمت نارها بالغة عنان السماء لما فيها من ملايين الكتب والمخطوطات، ولم تخبت النار قبل أن تسوى سقف المكتبة بأرضها، وتذهب بما فيها إلى غير رجعة، وقد لف الدخان المنبعث من حفلات شواء التراث سماء المدينة، فأحاطها بسواد عظيم، ورموا ما تبقى من الكتب فى نهر دجلة فاسوَّد ماؤه، فكانت لكثرتها جسراً يمرّون عليها ركاباً ومشاةً، قتلوا الخليفة المستعصم بالله، آخر خلفاء بنى العباس، ومعه مئات الآلاف من مخطوطات الأدباء والفقهاء والمبدعين.
«الرسالة» كتبها «الشافعى» فى مكة ومصر أواخر القرن الثانى الهجرى حُرقت النسخة الأولى ليلة سقوط الخلافة العباسية وسُرقت الثانية من دار الكتب المصرية عام 2002م
إلى النار أُلقيت مخطوطات ابن رشد وابن حزم، الأخير الذى أشعَّر قائلاً فيما يرى النار وقد التهمت مخطوطاته:
فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذى.. تضمنه القرطاس بل هو فى صدرى.
فى الشمال الغربى، حيث امتدت أطراف الدولة الإسلامية، ومع أُفول شمس الأندلس، شهدت المدينتان الأثيرتان، قرطبة وغرناطة، حرق مليون مخطوطة أندلسية كانت بمكتبتى عبدالرحمن الثالث، والحكم الثانى المستنصر بالله، بمراسيم ملكية من إيزابيلا الأولى ملكة قشتالة وفرديناند الثانى ملك أراغون، وما تبقى بيع ونُهب على يد البربر.
محرر «الوطن» استعان بـ«Google Alert» للبحث عن «الرسالة» فى مواقع البيع الإلكترونى وتوصل إلى مئات المخطوطات المعروضة للبيع منها «الهمزية» للبوصيرى و«إنشاء الدوائر» لابن عربى ومخطوطات من العهد النبوى بشهادات عثمانية أثرية موثقة لها..وصورة ضوئية من المخطوطة كانت مفتاحاً للبحث عن «الرسالة» ومعرفة مدى تطابقها مع صورتها فى «دار الكتب».. و«أبوالفرج» كُنية لتاجر أمدنا بصورة ضوئية ملونة لـ«الرسالة» يزعم أنها التقطت قبل سرقتها رغم أن مثيلتها فى «دار الكتب» رديئة وأكد أن «الأصل» خارج مصر دون أن يحدد وجهتها
صحيح أن عهد الغزاة قد ولى وانتهت غزواتهم، إلا أن المرحلة الراهنة تنذر بعهد جديد من غزاة التاريخ لصوص الماضى، رحل الصليبيون والتتر، وعاد الغرب إلى الشرق مع بداية عصر النهضة الأوروبية، وقد زاد نهماً وولعاً بالمخطوط العربى، حتى إن لويس الرابع عشر كلف دبلوماسييه وسفراءه بمهام الاستحواذ على المخطوط، أياً كانت التكلفة، ثم سرعان ما طرقت أبواب الشرق حملات الغرب وانتداباته، وقد حُملت المخطوطات العربية إلى مكتبات استمدت شهرتها من اعتبارها مركزاً لهذه المخطوطات فى بريطانيا وإسبانيا وفرنسا وهولندا وتركيا والولايات المتحدة وروسيا وإيران وإسرائيل، الأخيرة التى دأبت على مطاردة التاريخ وملاحقته، إما رغبةً فى طمس ما قد يهدد باسترجاع ما بقبضتها، وإما لإثبات حقوق تاريخية فى دول الجوار التى عاش بها اليهود قبل 1948م، كان آخرها محاولتها الأخيرة قبل 6 سنوات حينما ضبطت مباحث الأموال العامة فى مصر عدداً من الطرود قبل شحنها إلى الأردن، بحوزة سيدة أجنبية من أصول يهودية، بها مستندات ووثائق ملكية لأسر يهودية عاشت فى مصر قبل ثورة 1952م، وهو الأمر الذى نفته «تل أبيب» وقتها.
تقول الدكتورة بغداد عبدالمنعم فى كتابها «التراث فى أتون الحروب»: «ولقد دأبت إسرائيل على مطاردة التاريخ لأنها تريد أن تسرق منه أى شىء يثبت تاريخيتها، وفى سبيل ذلك قامت بملاحقة التراث العربى المخطوط علها تجد ما يسد حاجتها، مثل الوقوف على إحصاءات تتعلق باليهود فى المدن العربية، وعليه فلا نستغرب إذا عرفنا أن المخطوطات العراقية قد وقعت فى أيدى الصهاينة أو فى حوزة جمعياتهم فى الولايات المتحدة وأوروبا فى أثناء الاجتياح الأمريكى وبعده ما يكتنف ذلك من الغموض».
كل الوقائع والشواهد تشى بأن المفقود عظيم، فتركيا وحدها تقتنى نحو 250 ألف مخطوط، يقع الجزء الأكبر منها فى مكتبة السليمانية بإسطنبول، بحسب كتاب «أقدم المخطوطات العربية فى مكتبات العالم» لكوركيس عواد، فهناك نسخة من المصحف وجدت بالخط الكوفى وكتب عليها «إن هذا المصحف الشريف كتبه الإمام الشهيد ذو النورين أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى الله عنه، إملاء من أفواه الصحابة القراء فى عصره الذين أخذوا القرآن الكريم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم»، ونسخة من «بقية الأصمعيات التى أخلت بها المفضليات» تعود إلى القرن الثالث الهجرى، وهى مختارات من شعر العرب الذى رواه الأصمعى، بالإضافة إلى نسخة من «المعلقات السبع» كتبها أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس، وهى نسخة نفيسة جداً كتبت عام 338 هـ، ثم إن النفوذ الواسع للخلافة العثمانية سمح لها بجمع المخطوطات فى مختلف العلوم والفنون الإسلامية فى المكتبات التركية، وتنافس السلاطين العثمانيون فى جمع المخطوطات وإنشاء المكتبات فى المدن التركية، خاصة فى إسطنبول، رغبة منهم فى أن يكون لها مكانة تماثل مكانة دمشق عاصمة الأمويين، وبغداد عاصمة العباسيين، وتُقدر المخطوطات العربية بنحو 160 ألف مجلد تعود أصولها إلى المكتبات الأموية والعباسية والسلجوقية والمملوكية.
أما إيران، فمخطوطاتنا العربية موزعة هناك فى مكتبات طهران وتبريز وأصفهان وزنجان وقم ومشهد، وأشهرها مكتبة «آية الله مرعشى النجفى» التى تحوى قرابة 40 ألف مخطوط إسلامى نادر، و«مكتبة العتبة الرضوية المقدسة» التى تضم نحو 26 ألف مخطوطة، والمكتبة الوطنية الإيرانية التى تضم قرابة 18 ألف مخطوط، 15 ألف مخطوط تقتنيها المكتبة البريطانية، تغطى علوم القرآن والتفسير والحديث وعلم الكلام والطوبوغرافيا والسير والموسيقى وغيرها من الفنون والعلوم، أما مكتبة برلين فتحوى وحدها 11730 مخطوطاً، و3894 مخطوطاً بمكتبة الدولة البافارية، أما المكتبة الدوقية فى جوته فتضم 3317 مخطوطاً، وقدر بعض محققى التراث فى العالم العربى، المخطوطات العربية فى فرنسا بنحو 8500 مخطوط، وتحتفظ المكتبة الوطنية بمدريد بنحو 2000 مخطوطة عربية، كما يقول أيمن فؤاد سيد فى «الكتاب العربى المخطوط وعلم المخطوطات»، وتقدر المخطوطات العربية فى دير الأسكوريال ما بين 2000 و3000، وكان عددها أكبر من ذلك إلى أن نشب حريق هائل بها عام 1671 أحرق عدداً لا بأس به منها، أما مكتبة الكونجرس الأمريكى فتضم نحو 1700 مخطوطة عربية، منها نسخة من القرآن الكريم على رق غزال تعود إلى القرن الرابع أو الخامس الهجرى، فيما تمكنت إسرائيل من الاستيلاء على أكثر من 30 ألف كتاب ومخطوطة من المكتبات الفلسطينية فى بيوت القدس، وأعلنت أنها تمتلك «مجموعة تيجان دمشق»، وهى مخطوطات عبرية سرقت من الشام قبل أعوام.
أُحرقت مليون مخطوطة أندلسية بمراسيم ملكية من إيزابيلا الأولى وفرديناند الثانى
فى رحلة البحث عن مخطوطة «الرسالة» للإمام الشافعى، حرصت على تدوين كل شىء، عظيم الأشياء وتوافهها، أمسكت بأطراف خيوط متعددة، وما إن جذَبت حتى انفرط عقد كرات الصوف وهَوَت لتفصح عما استتر فى القلب منها، غير أنه كان لزاماً أن يكون خط البداية عند المخطوط وصاحبه، فمعرفة عما نبحث، شكله وتكوينه وهيئته، شرط لإيجاد الضال المفقود.
للتنقيب عن المفقود من الكتب والأجزاء التراثية قواعد منهجية، وضعها حكمت بشير ياسين بين دفتى كتاب، من بينها البحث فى كتب الإجازات والمسموعات، أو البحث فى الكتب الموجودة لمصنف الكتاب المفقود، خاصة إذا كان الكتاب المفقود له صلة بكتب المؤلف الأخرى، أو بالبحث فى كتب التلاميذ وتلاميذ التلاميذ ومن بعدهم، أو فى الكتب الخاصة بفن الكتاب المفقود، أو فى تلك الكتب المتأخرة التى صُنفت فى موضوع الكتاب المفقود، وكذلك بالبحث فى كُتب أهل بلد مؤلف الكتاب المفقود وكتب ذريته وأهل مذهبه إن كان من المشهورين بمذهب، أو فى كتب الموارد أو المصادر أو الفهارس، وكتب أطراف المتون الحديثية، والبحث فى الكتب المسندة المتأخرة عن الكتاب المفقود، غير أن تلك القواعد لا تصلح لمهمة البحث التى نحن بصددها، إذ إننا نبحث عن مخطوط معلوم الاسم والصاحب قبل اختفائه.
المصادر التاريخية كانت لنا مرجعاً، لمعرفة ذلك الذى لم تُهجنه عُجمةُ، ولم تدخل على لسانه لكنةُ، ولم تُحفظ عليه لحنة أو سقطة كما قيل فيه، مولده ونسبه وعلمه وفقهه وكتبه وأخيراً مخطوطته، فهو أبوعبدالله محمد بن إدريس الشافعى المطَّلبى القرشى، ثالث أئمة أهل السنة والجماعة الأربعة، صاحب المذهب الشافعى فى الفقه الإسلامى، ومؤسس علم أصول الفقه، بالإضافة إلى أنه إمام علم التفسير وعلم الحديث، وُلد فى غزّة سنة 150 هـ، وانتقل مع أمه إلى مكة فيما لم يجاوز عمره سنتين، وهناك حفظ القرآن الكريم فى السابعة من عمره، واتجه إلى التفصُّح فى اللغة العربية، فخرج فى سبيل هذا إلى البادية، ونزل فى قبيلة هذيل، فبلغ من حفظه لأشعار الهذليين وأخبارهم أن الأصمعى الذى له مكانة عالية فى اللغة قال: «صححت أشعار هذيل على فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس»، ثم نبغ فى الحجاز وملأ الدنيا وشغل الناس، وكان إلى علمائه مرجع الرواية والسنة، وقد سمَّاه أهل مكة (ناصر الحديث)، وقد تواترت أخباره إلى علماء عصره، فكانوا يفدون إلى مكة للحج، يناظرونه ويأخذون عنه فى حياة شيوخه، ألف «الشافعى» كتباً كثيرة، بعضها كتبه بنفسه وقرأه على الناس أو قرأوه عليه، وبعضها أملاه إملاء، فى مكة ألف «الشافعى» «الرسالة» للمرة الأولى شاباً، وهى رسالته القديمة، كما جاء فى «تاريخ بغداد» لأبوبكر أحمد بن على بن ثابت بن أحمد بن مهدى الخطيب البغدادى المتوفى سنة 463هـ وكذلك البيهقى بإسناده: «إذ كتب إليه عبدالرحمن بن مهدى أن يضع له كتاباً فيه معانى القرآن، ويجمع قبول الأخبار فيه، وحجة الإجماع وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، فوضع له كتاب الرسالة»، وهو ما أكد عليه أيضاً الحافظ ابن عبدالبر بإسناده فى «الانتقاء»: «وقال على بن المدينى: قلت لمحمد بن إدريس الشافعى: أجب عبدالرحمن بن مهدى عن كتابه، فقد كتب إليك يسألك، وهو متشوق إلى جوابك. قال: فأجابه الشافعى، وهو كتاب الرسالة الذى كتبت عنه بالعراق، وإنما هى رسالته إلى عبدالرحمن بن مهدى»، وجىء بمثله فى «الأنساب» و«الطبقات الشافعية»: «وأرسل الكتاب إلى ابن مهدى مع الحارث بن سريج النقال الخوارزمى ثم البغدادى، وبسبب ذلك سمى (النقال)».
«الشافعى» لم يسمِّ «الرسالة» بهذا الاسم، إنما سماها «الكتاب»، إنما سُميت «الرسالة» فى عصره بسبب إرساله إياها إلى عبدالرحمن بن مهدى.
أهمية «الرسالة» ترجع إلى كونها أول كتاب أُلف فى أصول الفقه والحديث، إضافةً إلى كونها كتاب أدب ولغة وثقافة قبل أن يكون كتاب فقه وأصول، كما قال فيه صاحب السيرة عبدالملك بن هشام النحوى، و«الزعفرانى» و«الأصمعى» و«ثعلب» وغيرهمُ.
مكتبة برلين تحوى مخطوطة باسم «الرسالة» تختلف عن صورة الأصل ويُتَرَحم فيها على «الشافعى» ما يشير كفاية إلى أنها كُتبت فى زمن متأخر عن المخطوطة المفقودة.. ومنافذ «الجمارك» أحبطت خلال فترة إجراء التحقيق 4 محاولات تهريب لمخطوطات وكتب نادرة.. ومحاضر المضبوطات: تزن نصف طن
بحسب المصادر التاريخية التى كانت لنا عوناً طيلة شهور البحث، وفَد «الشافعى» إلى العراق، فى خلافة هارون الرشيد، يأخذ عن أهل الرأى علمهم ورأيهم، ينظر فيه ويناظر ويحاجج وقد استقام خلال سنوات بقائه هناك منهجه، واستوت طريقته، ورسخت قدمه، وزادت نفسه ثقة فيما ذهب إليه، قبل أن يخرج إلى مصر فى سنة 199هـ، فنزل بها على أسرة ابن عبدالحكم، أحد علماء الحديث، واتخذ فى مصر الربيع بن سليمان المرادى، مؤذن المسجد الجامع، جامع عمرو بن العاص، وهو من ثقات الرواة عن المحدثين، تلميذاً وخليلاً، رغم أن الأخير المولود فى 174هـ كان يصغره بـ24 عاماً، وكان دائم القول له: «أنت راوية كتبى»، وقال له يوماً: «لو أمكننى أن أطعمك العلم لأطعمتك».
لَقَد أَصبَحَت نَفسى تَتوقُ إِلى مِصرِ
وَمِن دونِها أَرضُ المَهامَهِ وَالقَفرِ
فَوَاللَهِ لا أَدرى أَلِلفَوزِ وَالغِنى
أُساقُ إِلَيها أَم أُساقُ إِلى القَبرِ
خلال إقامته فى مصر، أعاد «الشافعى» تصنيف «الرسالة»، بحسب ما توصلنا إليه، إذ أملاها على «الربيع» وأتمها قبل آخر رجب سنة 204هـ، حيث مات فى ليلة الجمعة ودُفن عصرها لـ29 مضت من الشهر، عن عمرٍ لم يتجاوز 54 سنة، وقد خلَّف مذهباً هو الثانى بعد مذهب أبى حنيفة النعمان، من حيث كثرة الأتباع، وقد كان مقلدوه فى مصر أكثر مما سواها، حيث تغلب على المذهبين الحنفى والمالكى، لكن أُبطِلَ العمل به بمجىء الدولة الفاطمية التى استبدلت به مذهب الشيعة الإمامية، لكنه عاد مرة أخرى للعمل به فى عهد الدولة الأيوبية وبعدها فى عهد المماليك إلى أن أُوقِفَ العمل به فى عهد الدولة العثمانية؛ التى حصر حكامها القضاء فى المذهب الحنفى لأنه مذهبهم، وإذا كان المذهب الشافعى قد فقد مكانته الرسمية فى مصر، إلا أنه قد بقيت منزلته لدى الشعب المصرى، فإنه هو والمذهب المالكى قد تغلغلا فى النفوس؛ لذا نجد أن أغلب سكان الوجه البحرى (الشمال) يعملون بالمذهب الشافعى، بينما أغلب سكان صعيد مصر (الجنوب) يعملون بمقتضى الفقه المالكى. كما جىء فى «تاريخ المذاهب الإسلامية» لمحمد أبوزهرة، ومقدمة «ابن خلدون».
تتبعنا تنقل المخطوطتين فى المصادر التاريخية المختلفة، وتوصلنا إلى أن «الشافعى» ألَّف كتابه مرتين، وعده العلماء فى فهرس مؤلفاته كتابين، الرسالة القديمة، والرسالة الحديثة، أما الرسالة القديمة فالراجح أن النار طالتها فى حريق «دار الحكمة» ليلة دهم التتر بغداد، وليست تلك التى فى أيدى الناس اليوم سوى رسالته التى أملاها على «الربيع» فى مصر.
يقول أحمد محمد شاكر، فى شرحه وتحقيقه لـ«الرسالة»: «من أول يوم قرأت فى أصل الربيع من (كتاب الرسالة) أيقنت أنه مكتوب كله بخط الربيع، وكلما درسته ومارسته ازددت يقيناً.. والخابرُ بالخطوط القديمة يُجزم بأن هذه الإجازة (إجازة نسخ الكتاب) كتبتها اليد التى كتبت الأصل، وأن الفرق بين الخطين إنما هو فرقُ السنِّ وعلوِّها، فاضطربت يد الكاتب بعد أن جاوز التسعين، بما لم يوجد فى خطه فى فتوَّته لم يجاوز الثلاثين، وقد خشيت أن أثق برأيى وحدى فى ذلك، فأردت أن أتثبت، فاستشرت أحد إخوانى ممن لهم خبرة بينة وعلم بالخطوط، فوافقنى على أن كاتب الإجازة وكاتب الأصل وكاتب عناوين الأجزاء الثلاثة شخص واحد، لا فرق بينها إلا أنه كتب العناوين بالخط الكوفى، وكتب الإجازة وهو شيخ كبير، وأنا أُرجح ترجيحاً قريباً من اليقين أن الربيع كتب هذه النسخة من إملاء الشافعى، ولأنه لم يذكر الترحم على الشافعى فى أى موضع جاء اسمه فيه، ولو كان كتبها بعد موته لدعا له بالرحمة ولو مرةً وحدة كعادة العلماء وغيرهم».
ظلت المخطوطة التى خطها «الربيع» بيده، الواقعة فى 154 صفحة، غُلفت بجلد قديم، مجهولة المالك منذ وفاة «الربيع» فى 21 شوال سنة 270هـ إلى أواخر القرن الرابع الهجرى، وقد توصلنا إلى أن أول مالكيها المعروفين كان على وإبراهيم ابنا محمد بن إبراهيم بن الحسين الحنائى أو أحدهما، قبل أن تنتقل بالميراث وغيره.
فى بهو الطابق الأرضى، من سراى الأمير مصطفى باشا فاضل نجل إبراهيم باشا، شقيق الخديو إسماعيل من غير أمه، وحفيد محمد على باشا بـ«درب الجماميز» بحى السيدة زينب، نزلت «الرسالة» حيث ابتاعها على الأرجح مصطفى باشا فاضل، لتكون واحدة من 3458 مخطوطة نادرة ونفيسة بمكتبة السراى، غير أن دوائر الدهر ونوائبه نزلت بحائز المخطوط، الذى سرعان ما أطاح شقيقه الخديو بآماله فى وراثة عرش مصر، بفرمان 1866م، جاعلاً وريث عرشه أكبر أنجاله، ليُضطر بعد ذلك مصطفى باشا فاضل إلى بيع ممتلكاته فى مصر إلى شقيقه فى نوفمبر 1866م.
انتقلت «الرسالة» وشقيقاتها من نفائس المخطوطات ونوادرها إلى «الكتبخانة»، تلك الدار التى أسسها «إسماعيل» سنة 1870م، وظلت هناك حتى انتقالها سنة 1904م إلى المبنى الجديد لـ«دار الآثار العربية» بميدان باب الخلق، ثم إلى «دار الكتب المصرية» فى «رملة بولاق» سنة 1975، وقد نُقلت وغيرها، كما أخبرنى أحد العاملين القُدامى بـ«الدار»، على ظهور الخيل وعربات «الكارو»، وبقيت هناك على ذلك، حبيسة المخازن، تغلفها الرطوبة وتغطيها ذرات التراب التى تكومت مع مرور الأيام والسنون، حاملةً رقم 41/ أصول فقه، ظلت كذلك قبل أن يؤذن فى خروجها و5 مخطوطات أخرى فى احتفالية يوم الوثيقة العربية بالقاهرة، بتاريخ 28 أكتوبر 2002م، لتعود المخطوطات الخمس بعد الاحتفالية دون السادسة، أندرها وأكثرها قيمةً، كونها النُسخة الوحيدة المتبقية فى العالم من مخطوطات «الشافعى».
أَأَنثُرُ دُرّاً بَينَ سارِحَةِ البَهمِ.. وَأَنظِمُ مَنثوراً لِراعِيَةِ الغَنَمِ
لَعَمرى لَئِن ضُيِّعتُ فى شَرِّ بَلدَةٍ.. فَلَستُ مُضيعاً فيهِمُ غُرَرَ الكَلِم
لَئِن سَهَّلَ اللَهُ العَزيزُ بِلِطفِهِ.. وَصادَفتُ أَهلاً لِلعُلومِ وَلِلحِكَم
بَثَثتُ مُفيداً وَاِستَفَدتُ وِدادَهُم.. وَإِلّا فَمَكنونٌ لَدَىَّ وَمُكتَتِم
وَمَن مَنَحَ الجُهّالَ عِلماً أَضاعَهُ.. وَمَن مَنَعَ المُستَوجِبينَ فَقَد ظَلَم
فى مهمة البحث، كان لزاماً الإحاطة بتفاصيل كل شىء، ربما قادت ظروف وملابسات اختفاء «الرسالة»، الساعة والمكان والأشخاص موضع المسئولية، إلى شىء ذى قيمة، وهو ما دعا إلى الاستعانة بنصوص تحقيقات نيابة أبوالعلا فى سرقة المخطوطة، فهى لدينا أقوى وأقدر على سرد الوقائع وأصحابها، وأحفظ للأحداث وترتيبها وزمان حدوثها، وأبقى وأطول عمراً ممن شملتهم التحقيقات وأحاطتهم الشبهات ونأوا عن الكلام، لا سيما وقد نأى نفر من العاملين بـ«دار الكتب» عن الحديث فى وقت تحدث فيه آخرون باقتضاب وإيجاز مخل.
تحقيقات نيابة «أبوالعلا» كشفت أن العاملتين المكلفتين بحمل الكتب من مخزن المخطوطات إلى مقر المعرض بالدور الأرضى كانتا قد أكدتا أن أمين مخزن المخطوطات رفض أن يراجع فرد الأمن بالدور الرابع المخطوطات والكتب التى كان من المقرر عرضها فى المعرض الذى أقيم على هامش احتفالية الدار بالوثيقة العربية، وهو ما أكده موظف الأمن بالدور الرابع، إلا أن أمين مخزن المخطوطات أكد أنه تسلم المخطوطات يوم 28 أكتوبر 2002م، فى الساعة 10:45 صباحاً، أى قبل العرض بـ15 دقيقة وذلك من رئيس مخازن المخطوطات وهو الشخص الوحيد الذى يحتفظ بمفتاح الدولاب الخاص بالمخطوطات النادرة وأنه بالفعل تسلم منه ست مخطوطات، لكنه لم يتأكد من وجود رسالة الأمام الشافعى ضمن المخطوطات التى تسلمها لأنه لم يراجعها بنفسه، قبل أن تتولى العاملتان حملها من الدور الرابع إلى الدور الأول حيث مكان المعرض، دون رئيس المخازن الذى قال إنه أُصيب بـ«صداع»، وإنه سيذهب ليتناول الشاى، قبل أن تنتهى الفعالية وتنقص المخطوطات الست واحدة.. انتهت التحقيقات إلى لا شىء، فالمحاطون بسياج الاشتباه والتورط كُثر، بدءاً من رئيس مخزن المخطوطات الذى ضرب رأسه الصداع، وتخلف عن الاحتفالية التى حضرها وزراء ومسئولون مصريون وعرب بدعوى تناول الشاى، وصولاً إلى العاملتين.
فى رحلة البحث عن «الرسالة»، كنا على يقين أنها ما اختفت إلا لتظهر، وما سُرقت إلا لتُباع، بدأت مهمة البحث والتقصى، سلكت فيها مسالك كثيرة، لكن دون أثر للمخطوطة بعد، لم تُعرض للبيع فى سوق النخاسة كغيرها من المخطوطات التى بيعت عبر منصات البيع الإلكترونية وصفحات «فيس بوك»، ولم يعرف محرك البحث الأشهر «جوجل» خلال الـ16 سنة الماضية جُملاً كـ«مخطوطة الشافعى للبيع»، «مخطوطة الرسالة للشافعى للبيع»، وغيرها من الجمل الشبيهة.
استعنا فى مهمة البحث بخدمة التنبيهات المعروفة باسم «Google Alert»، وهى خدمة مجانية توفرها الشركة، لتنبيه المستخدمين بما يبحثون عنه من كلمات أو أشخاص، فور ظهور نتائج على محرك البحث، لتقوم الشركة بإشعار الباحث برسالة عبر بريد رسائله الإلكترونى، بمحتوى ما نُشر، مكانه وساعته. صار دأبنا كل يوم مطالعة بريد الرسائل الإلكترونية بشغفٍ ظل يشتغل يوماً بعد آخر، دون الوصول إلى الغاية المنشودة، لثلاثة أشهر مضت منذ تفعيلنا الخدمة، طالعنا سيلاً من المخطوطات والكتب النادرة المعروضة للبيع والشراء، وبعد استبعاد الموضوعات غير ذات الصلة، تبين أنه خلال الشهور الثلاثة جرى عرض عشرات المخطوطات كـ«قصيدة الهمزية فى مدح خير البرية» للإمام شرف الدين أبى عبدالله محمد بن سعيد البوصيرى، المتوفى سنة 964هـ، وقد طُبعت فى مصر على نفقة تاجر بالفحامين يُدعى عبدالسلام بن شفرون، و«إنشاء الدوائر» للإمام محيى الدين بن عربى، المتوفى سنة 638هـ، ومُصحف مخطوط من 29 جزءاً كُتب بخط اليد سنة 1109هـ، عرضه صاحبه بـ300 ألف جنيه، وخطاب تولية أبى بكر الصديق، رضى الله عنه، خلفه عمر بن الخطاب، بخط الصحابى عثمان بن عفان، رضى الله عنهم، وقد عُرض بـ7 ملايين جنيه، وآخر عرض مخطوطات فى اللغة والكيمياء وعلم الحديث تعود إلى سنة 875هـ، لم نستدل على مؤلف أى منها، ومخطوطة فرعونية على 10 ورقات من البردى، وكتاب مُدون على جلد غزال، ومصحف مخطوط بالخط الكوفى، بطول 2.5 سم (ثانى أصغر مصحف فى العالم)، وصحف تعود للعهد النبوى مرفقة بشهادات عثمانية أثرية موثقة لها، ومصاحف ومواثيق أخرى يتجاوز عمرها أكثر من 500 عام، كنا كمن يَعِس عن «الإبرة» فى أكوام من القشّ، فالمعروض للبيع من ذخائر مخطوطات السابقين كان بما يكفى لملء مكتبة جديدة.
الحديث إلى ذلك التاجر، أو ربما اللص الذى قدم إلينا عرضاً لبيع مصحف من أيام الدولة العثمانية، مكون من 29 جزءاً بخط اليد، كان أمراً فى غاية الأهمية، ولو من باب معرفة من أين تأتى المخطوطات وإلامَ تنتهى، غير أن الرجل الذى لم نر له وجهاً أو نسمع لها صوتاً، وافانا خلال حديثه عبر «واتس آب» بما هو أكثر أهمية، على الرغم من اندهاشه من التمسك بطلب شراء لـ«الرسالة» تحديداً: «وارد جداً تكون خرجت من مصر، اللى هيملكها هيعمل بها إيه هنا فى مصر، ولا حاجة، لازم هيبيعها للى يدفع كويس بره البلد». بدا كلام الرجل منطقياً للغاية، فخلال فترة بحثنا أحبطت منافذ مصلحة الجمارك المصرية، أربع محاولات لتهريب مخطوطات وكتب نادرة، وقد أشارت محاضر الضبط إلى أن المضبوطات وزنت 500 كيلوجرام من المخطوطات النادرة، ثم من يجرؤ على امتلاك «الرسالة» فى مصر بعدما ثارت ضجة اختفائها قبل سنوات؟، وإن فعل، ففى أى بيئة مناسبة سيحفظها؟ إذ يتطلب ذلك النوع من المخطوطات القديمة درجات حرارة ورطوبة بعينها، إضافة إلى خابرٍ بفنون الترميم للوقوف على سلامتها من آن لآخر، لكن يبقى «المنطقى» فرضاً لم تثبت بعد صحته.
الفرضية ظلت كذلك إلى أن عززها -لا أكدها- ذلك الذى اختار أن يحدثنى بكنيته «أبوالفرج»، وقد عرف نفسه باعتباره أحد المهتمين بشئون التراث، هو تاجر، إلا أنه تاجر من نوع مختلف، زعم الرجل امتلاكه لملايين المخطوطات المصورة، وهو الزعم الذى أكدته التجربة بعد تعارفنا بأيام، وفَّر الرجل ما طلبت، نُسخة ضوئية ملونة عالية الجودة من «الرسالة» كانت لى خير مُرشد، لمحاولة البحث عما يطابقها من مئات الخطوطات المعروضة للبيع عبر الفضاءات الإلكترونية المتعددة، غير أن الرجل أكد لنا فى بطن حديثه أنه سمع من ذوى ثقته أن «الأصل» خارج مصر حالياً، غير أنه لم يحدد وجهتها.
كانت مطالعة الصورة التى بحوزة «دار الكتب» لمخطوطة الإمام الشافعى المفقودة، أمراً فى غاية الأهمية، للتيقن مما إذا كانت الصورة التى أمدنا بها ذلك المدعو «أبوالفرج» قد التقطت بألوانها عالية الجودة بعد فقدان «الرسالة» من دار الكتب، وعليه يصبح حينئذ طرف خيط للوصول إلى المخطوطة المفقودة، أو أنها تطابق تلك التى فى «الدار»، غير أن الملاحظة الأولى كانت فى تطابق الصورة الملونة مع تلك التى أوردها فى نهاية كتابه الراحل أحمد محمد شاكر، الذى انتهى من تحقيق «الرسالة» فى 29 ديسمبر 1939م، قبل طباعتها فى مكتبة ومطبعة مصطفى الحلبى بـ«الغورية» عام 1940م، ما يعنى أنها المخطوطة التى أقَّر الرجل أن كاتبها هو تلميذ الشافعى، الربيع بن سليمان.. هى من نبحث عنها دون شكٍ.
قادنا البحث فى عدد من المكتبات العالمية، إلى مخطوطة حملت اسم «Šāfiʿī، Muḥammad Ibn-Idrīs: Kitāb ar-Risāla» فى مكتبة برلين، وقد طالعناها كاملةً على الموقع الإلكترونى للمكتبة فى 34 ورقة، غير أنها على ما يبدو قد كُتبت فى زمن متأخر عن تلك التى خطها «الربيع»، ذلك أن أولى صفحاتها دُون عليها تاريخ 1827 وقد نسخها على ما يبدو شخص يُدعى عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب كما هو مدُون على غلافها، فضلاً عن أن الناسخ بدأ كتابه بـ«الربيع بن سليمان قال أخبرنا الشافعى رحمه الله»، هنا قفز إلى الذهن ذلك الذى كتبه محقق «الرسالة» الشيخ الراحل أحمد محمد شاكر عن أن «الربيع» لم يترحم على «الشافعى» فى موضع واحد، ذلك أنها كُتبت فى حياة «الشافعى»، على النقيض من تلك المعروضة فى مكتبة «برلين»، كما أنه بمقارنة لون وحجم وشكل المخطوطة المعروضة فى مكتبة برلين بتلك الأصلية التى أمدنا بصورٍ لها ذلك المدعو «أبوالفرج» فإن اختلافاً نسبياً بدا واضحاً بين المخطوطتين، دفع نحو استبعاد أن تكون تلك المعروضة فى مكتبة برلين هى صورة المخطوطة الأصلية موضع البحث.
على أى حال، الاقتراب أكثر من «دار الكتب» مثَّل ضرورة قصوى، فكان من المهم مطابقة الصورة عالية الجودة لـ«الرسالة» مع تلك التى تحتفظ بها «دار الكتب»، كنا نبحث أيضاً عن من يتحدث إلينا من بين العاملين بـ«الدار»، وهو أمر جلل، فيه مخالفة لقرار وزارى سابق، حظر على العاملين التحدث إلى الإعلام، وقد وقع الاختيار على من لم يحظى برضا كثير من رؤساء «الدار» السابقين، لكثرة مطالبته بحقوق العاملين، ودعواه المتكررة لجَّرد المخطوطات وقوفاً على أعدادها، وكشفاً للمفقود منها.
عمرتُ الدَّهرَ ملتمساً بجهدى
أخا ثقةٍ فألهانى التماسى
تنكرتِ البلادُ ومن بجهدى
كَأنَّ أُنَاسَهَا لَيْسُوا بِنَاس
أشهر طوال من البحث الشاق اقتفاءً للمخطوط المفقود، غير أن مواصلة الشاق من العمل، استلزم من آن لآخر بعض من المتعة والترويح عن النفس، تلك التى كنا نجدها فى مطالعة ديوان «الشافعى» الشهير، فى محاولة الغَوص فى أعماق نفس الرجل الذى هوَى الشعر وأحبه، مع بعض من الحرص المشوب بالتحفظ:
وَلَولا الشِعرُ بِالعُلَماءِ يُزرى.. لَكُنتُ اليَومَ أَشعَرَ مِن لَبيدِ.
من بين قصائده الكثيرة، استوقفنا قوله: «أَصْبَحْتُ مُطَّرَحاً فى مَعشَرٍ جهِلُو.. حَقَّ الأَدِيبِ فَبَاعُوا الرَّأْسَ بِالذَّنَبِ»، وقد تساءلنا: «أو حدثته نفسه يوماً بما قد يطال إرثه من نكبات الدهر التى وقعت بعد موته بقرون طويلة؟!.. لمَ لا، فقد عُرف عن الرجل من رجاحة العقل وفصاحة اللسان وسلامة المنطق، ما يؤهله لاستشراف المستقبل، وإدراك طبائع الحروب ومآلاتها، وقد رسخ فى أذهان أتباعه ومحبيه ومريديه أن للإمام كرامات وبركات». حقاً أصاب، فقد جهلوا قدره، ومنزلته بين العلماء، فلولا جهلهم بقدر الرجل ما بلغ به من الهوان لديهم إهمال إرثه، وما سرقوا باب ضريحه المزخرف قبل أشهر قليلة، وبه عظَّمه السلطان كامل الأيوبى سنة 608 هـ.
مكتبة الإسكوريال بأسبانيا
المكتبة البريطانية
ضريح الإمام الشافعي بالقاهرة
الأمير مصطفي باشا فاضل
صورة ضوئية من المخطوطة المفقودة للإمام الشافعي
صورة ضوئية من المخطوطة المفقودة للإمام الشافعي
صورة ضوئية من المخطوطة المفقودة للإمام الشافعي
صورة ضوئية من المخطوطة المفقودة للإمام الشافعي
صورة لمخطوطة تحمل اسم "الرسالة" في مكتبة برلين