عبد الفتاح الجبالى يكتب: قراءة فى تطورات سوق العمل المصرى.. العمل اللائق والأمان الوظيفى
عبد الفتاح الجبالى
هل انتهى عصر العمل اللائق والأمان الوظيفى؟ وهل انقطعت الصلة بين الأجور والبطالة؟ هذه الأسئلة وغيرها أصبحت مطروحة بشدة على الساحة الدولية فى الآونة الحالية، لذا أفرد لها تقرير آفاق الاقتصاد العالمى الصادر عن صندوق النقد الدولى أجزاء كاملة فى العددين الأخيرين، طارحاً تساؤلاً هاماً هو: لماذا تنخفض البطالة، ومع ذلك تنمو الأجور بمعدلات ضعيفة للغاية؟ وبعبارة أخرى: لماذا لا يؤدى الطلب على العمالة إلى ارتفاع الأجور؟ ويرى أن الإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها تحتاج إلى دراسة متأنية لتطورات سوق العمل للوقوف على أهم العوامل المحركة له.
وقبل التعرض لهذه المسألة بالتفصيل تجدر بنا الإشارة إلى أن «العمل اللائق» هو مفهوم يشير إلى توافر فرصة عمل مناسبة وبدخل ملائم وتتيح الاستقرار فى العمل وسط ظروف عمل آمنة وحماية اجتماعية.
وهنا يلاحظ المتتبع لسوق العمل المصرى خلال الفترة (2010 - 2017) العديد من الظواهر الهامة التى يجب التوقف عندها للإجابة عن التساؤلات السابقة.
أولاً: تراجُع معدلات التشغيل
وهى عبارة عن عدد المشتغلين منسوباً إلى السكان فى سن العمل (15 سنة فأكثر)، وهى مسألة هامة وأساسية، وهنا تفرّق إحصاءات العمالة بين السكان فى سن العمل (أى القوى البشرية) والقوى العاملة، أى بين مَن يندرجون ضمن القوى العاملة ومَن لا يندرج ضمنها، ويحدد هذا التصنيف وفقاً للنشاط الاقتصادى للأفراد، فالقوى العاملة تنطبق على السكان فى سن العمل ولديهم القدرة عليه وراغبون فيه ويبحثون عنه، وبالتالى فهو يستبعد الطلاب وربات البيوت والمتقاعدين والأفراد غير المؤهلين للعمل مثل المعاشات والعجزة والمساجين وغيرهم، وقد تراجع هذا المعدل من 45% عام 2010 إلى 40٫8% عام 2016، وإلى 40% خلال الربع الثالث (يوليو- سبتمبر) من عام 2017.
وفى هذا السياق نلاحظ أن التوزيع النسبى للقوى البشرية (وهى تشمل السكان فى سن 6 إلى 65 سنة، ما عدا غير القادرين عن العمل بصفة دائمة مثل المصاب بعجز كلى) يشير إلى أن 48٫1% من هؤلاء داخل قوة العمل والباقى خارجها (إما للتفرغ للأعمال المنزلية 26٫9% أو للتفرغ للدراسة 19% أو للتقاعد 2٫1%)، مع ملاحظة أن هذه النسبة ترتفع كثيراً بالنسبة للإناث، حيث يوجد 77٫7% منهن خارج قوة العمل (منهن 54٫3% متفرغات لأعمال المنزل و19٫5% للدراسة)، وهذه المسألة تدلنا على انسحاب المرأة من سوق العمل، إما لأن ظروف العمل لم تصبح مواتية لها أو لعدم توافر ظروف آمنة للعمل. وهنا نلحظ أن 80٫4% من الأميات و77٫6% ممن يقرأن ويكتبن أو محون أميتهن، متفرغات للأعمال المنزلية مقابل 31٫6% من الحاصلات على مؤهل جامعى و40% من الحاصلات على مؤهل أعلى من المتوسط، و60% من الحاصلات على مؤهل متوسط فنى، بمعنى آخر فإن هناك علاقة وثيقة بين المستوى التعليمى والدخول إلى سوق العمل. وتدلنا هذه البيانات على ظاهرة أساسية، هى انسحاب المرأة من هذه السوق وتفرغها للأعمال المنزلية، إما نتيجة للأوضاع السائدة أو لأسباب اجتماعية تتعلق بأنماط القيم السائدة فى المجتمع.
وهنا يمكن قياس معدل الإعالة عن طريق العلاقة بين القوى العاملة وعدد السكان، وهو يختلف كثيراً عن البطالة. وبمعنى آخر فارتفاع معدل الإعالة لا يعنى بالضرورة ارتفاع معدل البطالة، وهذه التفرقة هامة وأساسية لأن كلاً منهما له استراتيجية وطريقة معالجة مختلفة تماماً عن الآخر.
زيادة معدلات «التشغيل» والإنتاج «حجر الزاوية» فى التنمية.. ولن تتم إلا بتفعيل آليات السوق وتنشيط جهاز الأسعار وتدعيم القطاع الخاص ورفع كفاءة الدولة فى إدارة العملية الإنتاجية.. وفروق إحصائية كبيرة فى أرقام البطالة بسبب اختلاف التقديرات حسب التعريف الذى يتبناه البعض لمفهوم «التعطل عن العمل»
ثانياً: ازدياد دور القطاع غير الرسمى
وهنا يشير التوزيع القطاعى للمشتغلين إلى أن هناك تراجعاً فى نسبة العمالة بالقطاع الحكومى من 22٫9% من إجمالى المشتغلين عام 2010 إلى 18٫7% عام 2016 وإلى 17٫3% خلال الربع الثالث من عام 2017. وبالمثل هناك تراجُع طفيف فى العمالة بالقطاع العام والأعمال من 3٫2% إلى 3٫4% و3٫1% خلال نفس الفترة، وعلى النقيض من ذلك، فقد ارتفع نصيب القطاع الخاص المنظم من 24٫5% إلى 31٫5% و31٫6% خلال نفس الفترة، أما القطاع الخاص غير المنظم فقد تذبذب من 47٫2% إلى 44٫9% و46٫5% خلال نفس الفترة، ولكنه ما زال يشكّل النسبة الغالبة فى سوق العمل ككل، وترتفع هذه النسبة بشدة داخل الريف المصرى، حيث نلحظ أن 67.4% ممن يعملون فى ريف الوجه القبلى و55.1% ممن يعملون فى ريف الوجه البحرى و61.9% ممن يعملون فى ريف محافظات الحدود يعملون فى هذا القطاع، وبالتالى أصبح هذا القطاع يستحوذ على 60% ممن يعملون فى الريف المصرى ككل. وهذا القطاع يضم شرائح عريضة من المجتمع المصرى مثل العاملين فى الورش الصغيرة أو الأعمال اليدوية والحرفية أو الذين ليس لهم مكان عمل إلا بالشارع كالباعة الجائلين وعمال التراحيل. وتكمن خطورة هذا الوضع فى أنه قد بدأ يستوعب قطاعات جديدة من الشباب، خاصة خريجى الجامعات والمعاهد العليا، ليضافوا إلى قوته الأساسية المتمثلة فى المنتقلين من الريف المصرى إلى المدن أو العائدين من الخارج. وبالتالى لم يعد مجرد احتياطى للقطاع المنظم، بل أصبح فاعلاً أساسياً بالأسواق. وبمعنى آخر فإن هذا القطاع لم يعد يستوعب العمالة الإضافية التى لا تجد مكاناً لها بالسوق النظامية كما كان سائداً من قبل، بل أصبحت هذه العمالة تتجه مباشرة إلى هذه السوق، وهنا مكمن الخطورة.
ويرتبط بهذه المسألة مدى الاستقرار فى سوق العمل، إذ تشير الإحصاءات إلى تراجُع من يعملون عملاً دائماً من 77٫9% عام 2010، إلى 72٫5% عام 2016، وإلى 71٫1% خلال الربع الثالث من عام 2017، وفى المقابل ارتفعت نسبة العاملين فى عمل متقطع من 14٫9% إلى 15٫9% و19٫5% خلال نفس الفترة على الترتيب. أما نسبة العاملين فى عمل مؤقت فقد ارتفعت من 7% إلى 7٫1% و8٫1%.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن نحو 89٫8% ممن يعملون عملاً متقطعاً هم فى القطاع غير المنظم الذى يستحوذ أيضاً على نحو 86٫1% ممن يعملون عملاً موسمياً، أما العاملون عملاً مؤقتاً فإن 73٫4% منهم فى القطاع الخاص المنظم مقابل 15٫8% فى القطاع غير المنظم. وتكمن خطورة هذا الوضع ليس فقط فى عدم الاستقرار الداخلى لسوق العمل ولا لصعوبة وضع أو رسم سياسات محددة من جانب متخذى القرار فى المجتمع، ناهيك عن صعوبة تنظيم الأوضاع بداخل هذه السوق مع ما يتلاءم واحتياجات المجتمع، ولكن أيضاً للظروف السيئة التى يعمل فيها هؤلاء، خاصة أن معظمهم يعملون بدون عقود رسمية وغير مسجلين لدى التأمينات الاجتماعية. وخير دليل على ذلك أنه، وبينما تصل نسبة العاملين بعقد قانونى إلى 64٫8% من إجمالى العاملين بأجر فى المجتمع ككل خلال الربع الثالث من عام 2017، فإن هذه النسبة تصل إلى 1٫6% فقط لدى القطاع الخاص خارج المنشآت. ووصلت نسبة المشتركين بالتأمينات الاجتماعية إلى 60٫9% على صعيد المجتمع، وتصل إلى 9٫1% فقط لدى هؤلاء. وكذلك تبلغ نسبة المشتركين فى التأمين الصحى نحو 54٫1% لدى المجتمع ككل، ولكنها تهبط إلى 1٫8% لدى هذا القطاع.
كما أدى التوسع فى هذا القطاع إلى الاعتماد على العمالة متوسطة المهارة بالأساس، أى الشريحة التعليمية الأقل. واشتغال العديد من الأفراد فى وظائف ومهن لا علاقة لها بمؤهلاتهم العلمية، بل ويلجأ بعضهم إلى القيام بأعمال هامشية تقع ضمن القطاع غير الرسمى، وهى أمور تؤثر فى النسيج الاجتماعى للوطن، والعملية التنموية ككل.
ثالثاً: ارتفاع معدل البطالة
وهنا تجدر الإشارة إلى أن التعريف العلمى للبطالة «ينصب على الشخص الذى فى سن العمل والراغب فيه والقادر عليه ويبحث عنه ولا يجده وذلك عند مستوى الأجر السائد بالسوق». ولا يخفى على أحد أن كل كلمة فى هذا التعريف تشير إلى معنى محدد، وبالتالى تختلف التقديرات حسب التعريف الذى يتبناه الباحث، فالبعض على سبيل المثال يستبعد «البحث عن العمل» كشرط للبطالة، والآخر يستبعد الحديث عن مستوى الأجر السائد... إلخ، الأمر الذى يخلق فروقاً إحصائية كبيرة، إذ تشير الإحصاءات إلى أن قوة العمل قد ارتفعت من 26٫1 مليون عام 2010 إلى 28٫9 مليون عام 2016، ثم إلى 29٫5 مليون خلال الربع الثالث من عام 2017، وارتفع عدد المشتغلين من 23٫8 مليون إلى 25٫3 مليون و25٫9 مليون خلال نفس الفترة على التوالى، وبالتالى ارتفع معدل البطالة من 9% عام 2010 إلى 12٫5% عام 2016 قبل أن يهبط إلى 11٫9% خلال الربع الثالث من عام 2017، مع ملاحظة أن البطالة بين الذكور تصل إلى 8٫2% مقابل 24٫4% للإناث، ورغم هذا التراجع فإنها تظل مرتفعة للغاية، خاصة أن الأرقام المطلقة تصل إلى نحو 3.6 مليون متعطل. ولعل خطورة المشكلة تكمن فى اتساعها لتشمل كافة قطاعات وشرائح المجتمع، خاصة الداخلين الجدد لسوق العمل، ويكفى للتدليل على ذلك أن نعلم أن معظم هؤلاء المتعطلين من الحاصلين على التعليم المتوسط الفنى بنسبة 43٫6% من الإجمالى والتعليم العالى 40٫6%. أما فيما يتعلق بالتوزيع النسبى للمتعطلين وفقاً للعمر فإننا نلحظ أن 39٫6% منهم يقعون ضمن الشريحة العمرية (25-30 عاماً) يليها الشريحة العمرية (20-24 عاماً) بنسبة 32٫3%.
ومن الأمور الهامة هنا ارتفاع نسبة المتعطلين الذين سبق لهم العمل لتصل إلى 20٫9% من إجمالى المتعطلين خلال الربع الثالث من عام 2017. وهنا يثار السؤال المنطقى: إذا كانت معدلات البطالة تنخفض، فكيف ترتفع معدلات البطالة لدى الذين سبق لهم العمل؟ ونعتقد أن الإجابة هنا تكمن فى كون سوق العمل أصبح يعتمد على عمالة جديدة بدلاً من العمالة القائمة، وذلك توفيراً للنفقات، حيث إن العامل الجديد غالباً ما يحصل على أجور أقل من العامل القديم. ولهذا نلاحظ انخفاض نسبة المتعطلين لمدة تتراوح بين سنة وأقل من سنتين من 46٫2% عام 2016 إلى 22٫6% خلال الربع الثالث عام 2017، بينما ارتفعت نسبة المتعطلين أكثر من ثلاث سنوات من 27٫6% إلى 42٫6% خلال نفس الفترة، أى إن التشغيل الذى شهده المجتمع خلال هذه الفترة تم من المتعطلين بين سنة وأقل من ثلاث سنوات.
ويلاحظ أن نحو 66٫1% من المتعطلين الأميين، و55% من المتعطلين من حمَلة المؤهل فوق المتوسط، ونحو 49٫3% من المتعطلين من حملة المؤهل المتوسط الفنى يعانون من البطالة لأكثر من ثلاث سنوات، بينما تنخفض هذه النسبة بين الحاصلين على مؤهل عال إلى نحو 35٫2% ونحو 25٫2% للحاصلين على ثانوية عامة و28% من المتعطلين حاملى المؤهل المتوسط خلال الفترة السابقة.
كل هذه المؤشرات وغيرها توضح لنا، بما لا يدع مجالاً للشك، مدى خطورة وتداعيات هذه المشكلة، خاصة أن آثارها لا تتوقف على الصعيد الاقتصادى (باعتبارها تمثل هدراً فادحاً للطاقات البشرية المتاحة) فحسب، بل تمتد بآثارها لتشمل كافة جوانب المجتمع سياسياً واجتماعياً وحضارياً، وتحتاج هذه المسألة إلى مناقشة أسباب هذه الظاهرة، وبالتالى وضع الحلول المناسبة لها. وبمعنى آخر فإن قضية البطالة قد وصلت إلى مرحلة من الخطورة بحيث لا يمكن التعامل معها بالمسكنّات الوقتية أو البرامج اللحظية، ولكنها تتطلب إعادة النظر فى المنهج التنموى السائد حالياً من حيث طبيعة الاستثمارات وتوزيعها وأولوياتها.
ومن المعروف أن التنمية هى إضافة طاقات إنتاجية جديدة للمجتمع عن طريق الاستخدام الأمثل للموارد المالية ورفع معدل الاستثمار. وحجر الزاوية هنا هو زيادة التشغيل ورفع الإنتاجية. وهذا لن يتم إلا عبر تفعيل آليات السوق وتنشيط جهاز الأسعار وتدعيم القطاع الخاص مع رفع كفاءة الدولة فى إدارة العملية الإنتاجية، والعمل على التوسع فى تسهيل بناء القواعد الإنتاجية وتعبئة الموارد المحلية واستخدامها أفضل استخدام ممكن. وذلك بتطبيق سياسات لتحفيز الاستثمار والنشاط الاقتصادى عموماً، وفى القطاعات كثيفة العمل على وجه الخصوص، مع العمل على إيجاد بيئة اقتصادية قوية تساعد على تلبية الاحتياجات الأساسية. والاستفادة المثلى من الطاقات المتاحة، وذلك بُغية امتصاص البطالة ورفع مستوى المعيشة، وتنقية المناخ الاستثمارى ليصبح أكثر قدرة على جذب الاستثمارات، مما يساعد على تنشيط عجلة الاقتصاد القومى، وبالتالى زيادة فرص التشغيل وامتصاص جانب كبير من البطالة.