الإمامة فى الصلاة.. إشارة العهد
رغم رفضها لفكرة الوصية الصريحة أو خوفها من أن تأتى فى غير صالح الصديق أبى بكر (رضى الله عنه)، فإن السيدة عائشة (رضى الله عنها) اجتهدت فى التأكيد أمام الجميع على أن النبى يريد استخلاف أبى بكر، وساندها فى ذلك عمر بن الخطاب (رضى الله عنه)، يشهد على ذلك تلك القصة التى رواها صاحب السيرة الحلبية وذكر فيها:
«دخل بلال (رضى الله تعالى عنه) عليه (صلى الله عليه وسلم) فقال: الصلاة يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: لا أستطيع الصلاة خارجا ومُر عمر بن الخطاب فليصلِّ بالناس، فخرج بلال رضى الله تعالى عنه وهو يبكى فقال له المسلمون: ما وراءك يا بلال؟ فقال إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يستطيع الصلاة خارجا، فبكوا بكاء شديدا، وقال لعمر إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يأمرك أن تصلى بالناس، فقال عمر رضى الله عنه: ما كنت لأتقدم بين يدى أبى بكر أبدا، فادخل على نبى الله (صلى الله عليه وسلم) فأخبره أن أبا بكر على الباب، فدخل عليه (صلى الله عليه وسلم) بلال (رضى الله تعالى عنه) فأخبره بذلك، فقال: نعمَ ما رأى، مُر أبا بكر فليصل بالناس، فخرج إلى أبى بكر فأمره أن يصلى فصلى بالناس».
تبدو الأحداث فى هذه القصة غير منطقية بعض الشىء. فهل من المقبول أن نصدّق أن عمر بن الخطاب يرد أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) الذى جاءه على لسان بلال ويرفض أن يؤم الناس فى الصلاة طبقاً لإرادة النبى؟ وهل من المعقول أن نقبل التبرير الذى ساقه عمر لتقديم أبى بكر فى إمامة الصلاة من خلال تنبيه النبى إلى أن أبا بكر بالباب؟ وهل كان أبوبكر يترك الصلاة أصلاً أو يغيب عنها؟ لكن يبقى أن ما رواه صاحب السيرة الحلبية حول مسألة «التكليف بإمامة المسلمين فى الصلاة» حين مرض النبى يؤكد أن عمر بن الخطاب كان يرى أن أبا بكر الصديق هو الشخصية المؤهلة لخلافة النبى (صلى الله عليه وسلم)، والدليل على ذلك أنه سعى إلى تقديمه على نفسه قناعة منه بذلك، وأعلن ذلك على ملأ من المسلمين، وقد رضى النبى (صلى الله عليه وسلم) بمراجعة عمر، وأمر أبا بكر بأن يؤم الناس فى الصلاة فى إشارة حاجج بها عمر بن الخطاب المسلمين لإقناعهم بمبايعة أبى بكر الصديق فى اجتماع «السقيفة» حين قال: «رضيه رسول الله خليفة له فى دينه أفلا نرضاه خليفة لنا فى دنيانا». وسوف نتوقف أمام هذا الاجتماع بالتفصيل فيما بعد.
ويمكن القول بأن عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) لعب دوراً مهماً فى إدارة الصراع على السلطة بعد وفاة النبى (صلى الله عليه وسلم) حين أجمع الأنصار رأيهم على تولية «سعد بن عبادة» الخزرجى (رضى الله عنه)، فاصطحب أبا بكر الصديق وجماعة من كبار المهاجرين معه ولحقوا بالأنصار فى «سقيفة بنى ساعدة»، حيث كانت القصة الشهيرة والحدث الأهم فى مسألة نقل السلطة إلى أبى بكر. وقد استثمر عمر فى هذا الموقف الطريقة التى أدير بها موضوع إمامة الصلاة بصورة مرتبة ومنظمة.
لم يكتف صاحب السيرة الحلبية بهذه الرواية المتعلقة بموضوع «إمامة الصلاة» خلال فترة مرض النبى (صلى الله عليه وسلم)، بل قدم لنا رواية أخرى يختفى فيها عمر بن الخطاب وتظهر فيها أم المؤمنين عائشة (رضى الله عنها)، ويبرز فيها أن النبى أمر بصورة مباشرة بأن يؤم أبوبكر المسلمين فى الصلاة، يقول فيها: «قال النبى (صلى الله عليه وسلم): مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس، فقالت عائشة (رضى الله تعالى عنها): إن أبا بكر رجل أسيف -أى رقيق القلب- إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فقال (صلى الله عليه وسلم): مُروا أبا بكر فليصلِّ بالناس، فعاودته، فقال: مُروا أبا بكر فليصلِّ بالناس، فقلت لحفصة: قولى له إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمُر عمر فليصلِّ بالناس ففعلت حفصة فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لحفصة: مه، إنكن صواحب يوسف (عليه الصلاة والسلام)، فقالت حفصة (رضى الله تعالى عنها) لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرا، ومُروا أبا بكر فليصل بالناس».