ظهرت الطبقة الوسطى المصرية فى الربع الأول من القرن التاسع عشر حين عينت حكومات محمد على وأبنائه المصريين بمواقع قيادية فى الحياة العامة (الجيش والوظائف العمومية).. ثم مضى قرن كامل حتى أصبحت تلك الطبقة الوسطى قادرة فاعلة فى الحياة السياسية والثقافية حيث رأينا فى النصف الأول من القرن العشرين مشاركتها فى تأسيس الأحزاب والصحف والجامعة والصناعة ثم فى قيادة الثورة ضد الاستعمار.. يقول د.أحمد زايد: تكونت طلائع هذه الطبقة من أشخاص مختلفين ممن مُنحوا فرصة التعليم مكنتهم من شغل وظائف فى الجهاز البيروقراطى للدولة أو بمواقع فى ممارسة المهن المتخصصة. وتلاحمت هذه الطليعة -تاريخياً- مع فئات من التجار وملاك الأراضى الزراعية ليشكلوا كتلة طبقية وسطى لعبت دوراً مهماً فى تاريخ مصر الحديث وقادت عمليات التحول الاجتماعى والاقتصادى، بخاصة بعد ثورة 1952 التى مكنت هذه الطبقة ووسعت من قاعدتها على أثر التوسع فى التعليم وفى تدخل الدولة فى إدارة الاقتصاد. وأصبحت هذه الطبقة -متمثلة فى نخبها وطليعتها السياسية والثقافية- مسئولة تاريخياً عن حكم البلاد وحماية هوية ومؤسسات الدولة الرئيسية وأصبح لها دور يشبه إلى حد كبير الدور الذى قامت به الطبقة الرأسمالية فى قيادة التطور فى المجتمعات الأوروبية.
ويصف الصحفى السعودى عبدالرحمن الراشد: القاهرة عُرفت فى معظم عهودها بأنها مدينة الطبقة الوسطى المرفهة، وإن عاشت ضموراً فى العهد الاشتراكى، بعد أن ألغيت الملكية الخاصة، وتحول الجميع إلى موظفى قطاع عام وصارت الحكومة تدير كل شىء.. والقاهرة أقدم المدن العربية بفعل طبقتها الوسطى.. وكانت من أسبق المدن العربية معرفة بحياة المدنية الحديثة.. لكن لهذه الطبقة إشكالاتها كونها ألأكثر إلحاحاً على تنفيذ رؤيتها فى التغيير المدنى والسياسى، وهى تملك نفوذاً أوسع من الطبقة التى فوقها وتقود الطبقات تحتها رغم أن الكثيرين يخطئون قراءة أهمية الطبقة الوسطى فى شأن التغيير السياسى.. وأفرادها عُرفوا بأنهم عماد استقرار النظام الاجتماعى والسياسى فى أى بلد ناجح، وغضبهم هو دمار أى مجتمع مهما كان قوياً.. والطبقة الوسطى المصرية هى الركيزة الأساسية لأى نظام، متى ما عالج ذلك النظام مشاكلها، ولبى احتياجاتها، لكنها فى المقابل قنبلة موقوتة قابلة للانفجار عندما يجرى تجاهلها أو محاولة تقزيم حصتها من الحقوق المدنية والاجتماعية.
ويرى د.جلال أمين، فى سلسلة مقالات نشرها قبل عشرة أعوام، أن الطبقة الوسطى فى مصر الآن طبقة مهانة، ومحبطة، فلا عجب أنها أيضاً قليلة الحماس لقضايا الوطن.. وضعيفة الإنتاجية فى الاقتصاد والثقافة ولم يكن حالها كذلك دائماً، فقد حل زمن بهذه الطبقة كانت فيه تشعر بتميز واضح عمن دونها، واثقة بنفسها ومعتزة بكرامتها، وعالية الآمال لنفسها ولوطنها، وتنتج إنتاجاً ثقافياً باهراً.. وحين قامت ثورة 23 يوليو كانت الطبقة الوسطى المصرية صغيرة الحجم ولكنها كانت متميزة، ووطنية، ومؤثرة.. وكانت الطبقة الوسطى الجديدة، التى خلقتها ظروف الخمسينات والستينات فرحة بنفسها.
ويصف الصحفى البحرينى عبيدلى العبيدلى ما حدث فى ثورتى يناير ويونيو من منطلقات اجتماعية محضة: إنها انتفاضة وطنية عارمة تقودها الطبقة الوسطى المصرية ونجاح وقوة هذه الطبقة سوف يحدد مسار المستقبل.
إن تاريخ الطبقة الوسطى المصرية ملىء بالتعرجات بين الانفتاح والنمو والتمرد والانكماش والضمور والخمول سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وهو ما نراه اليوم جلياً إلى حد تحذيرات علنية من علماء الاجتماع بتغير وجه المجتمع للأسوأ نتيجة غياب الطبقة الوسطى.. وقد أصبح من الصالح العام أن تتعدل السياسات لتدعم عودة وقوة الطبقة الوسطى للنشاط والعطاء والحفاظ على الثوابت المصرية وهو واجب على مؤسسات وإدارات السلطة الحاكمة دائماً.
ولا بديل عن حرص كل طبقات المجتمع على دعم وجود الطبقة الوسطى رمانة الميزان فى كل المجتمعات.
والله غالب.