ليلة البقيع: إشارة البدء للصراع على السلطة فى الإسلام
لم تبدأ قصة الصراع على الحكم فى تاريخ المسلمين بوفاة النبى صلى الله عليه وسلم، بل يمكن التأريخ لها بالأيام الأخيرة فى حياته، إذ أخذت الصراعات الصامتة فى الاعتمال قبل صعود النبى للرفيق الأعلى، ما بين المهاجرين من ناحية والأنصار من ناحية أخرى، وداخل المهاجرين: بين القرشيين من «بنى عبدالمطلب» والقرشيين المؤمنين من البطون والعوائل الأخرى، وكذا داخل الأنصار: بين الأوس والخزرج، وهو الصراع الصامت الذى أحس به النبى صلى الله عليه وسلم أواخر أيامه فى الحياة وحاول أن يضع بعض الأسس لحله؛ لكن الله أبى ذلك، ودفع المؤمنون الأحداث فى اتجاه ترك الأمور تسير على ما تسير عليه دون توجيهات واضحة من النبى صلى الله عليه وسلم.
كان دخول النبى فى مرحلة المرض الذى أدى إلى وفاته (استمر عشر ليال فى رواية، وثلاث عشرة ليلة فى رواية أخرى وأربع عشرة ليلة فى رواية ثالثة) إيذاناً ببدء العديد من التجاذبات، وانخراط كبار الصحابة -رضوان الله عليهم- فى ترتيبات تمهد لعملية انتقال السلطة من بعده والخروج من دولة «النبوة» إلى دولة «السياسة والحكم»، وقد بدأ هذا الأمر منذ اللحظات الأولى التى شرع المرض يتسلل فيها إلى جسد النبى الطاهر ليؤذن بالنهاية، فوقتها بدأ النبى صلى الله عليه وسلم يشعر بالإشكالية التى يمكن أن يقع فيها المسلمون من بعده بسبب التنازع على الحكم.
ولو أننا حللنا مشهد الليلة التى بدأ فيها مرض النبى صلى الله عليه وسلم، فسوف نلاحظ حالة القلق التى بدأت تنتابه بسبب إدراكه لاحتمالية التنازع على الحكم من بعده، وهو ذلك المشهد الذى زار فيه النبى صلى الله عليه وسلم «البقيع»: الأرض التى دُفن فيها صحابته الأولون الذين استشهدوا فى سبيل الله، ويذكر صاحب السيرة الحلبية «عن أبى مويهية مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله، قال له فى جوف الليل: إنى قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معى، قال: فانطلقت معه، فلما وقف بين أظهرهم قال: السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، لو تعلمون ما نجاكم الله منه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها والأخيرة شر من الأولى».
هكذا كان تصور النبى صلى الله عليه وسلم للمشهد وهو يدخل مرض الموت: مشهد الفتن التى تتدفق كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها والأخيرة شر من الأولى، ولا خلاف على أن أصل الفتنة يرتبط بطلب الدنيا والتشبث بمعطياتها. وتلك هى دلالة الفتنة فى القرآن كما تشير إلى ذلك آياته الكريمة، ففى الآيات (من 47- 49) من سورة البقرة إشارة واضحة إلى دلالة الفتنة على معنى طلب الدنيا والبحث عن مكتسباتها، تقول الآيات «لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ(47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّىٰ جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ(48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِى وَلَا تَفْتِنِّى أَلَا فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ(49)».
لم يكن النبى -صلى الله عليه وسلم- يتوقع الأحداث المختبئة فى رحم الغيب، بل كان يقرأ معطيات مشهد بدا صامتاً فى حلقاته الأولى، وكان من الطبيعى أن يعلو عجيجه وضجيجه بعد أن لم يعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين، ومنهم من كان يعج ويضج بين ظهرانيه إلى حد نزول قرآن كريم ينهاهم عن ذلك، كما جاء فى الآية الثانية من سورة الحجرات: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ»، لم يكن الأمر تنبؤاً بمستقبل، بل كان قراءة لمعطيات واقع، والحقيقة فإننى أتحفظ على ما يذهب إليه البعض من أن النبى صلى الله عليه وسلم تنبأ بالعديد من الأحداث التى شهدتها فتن الصراع على الحكم والتى استمرت لسنين طويلة وشهدت أحداثاً جساماً، فليس من المنطقى أن نقبل أن الرسول كان يرسم خرائط الغيب ونتناقض مع ما نؤمن به من قرآن تنفى آياته ذلك: «قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعاً وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» سورة الأعراف - الآية (188).
الأخبار المتعلقة:
الإمامة فى الصلاة.. إشارة العهد
السيف والصولجان: «الرزية» التى أدت إلى الصراع بين المسلمين
قصة الصراع على الحكم فى تاريخ المسلمين (4) .. محاولات «بنى عبدالمطلب» إدراك الأمر
القلق يستبد بـ«بنى عبدالمطلب».. و«الأنصار» فى حيرة
صراع بين الكبار.. وعوام المسلمين غائبون
انشقاق فى صفوف الأنصار.. والحكم للأهل والعشيرة
الحكم قدر من الله.. ولا حق لمزاحمة من قضى الله بالسلطة له
سعد بن عبادة المعارض الصلب لحكم أبى بكر و عمر
الحرب السياسية تمتد إلى مانعى الصدقات
السيف والصولجان: قصة الصراع على الحكم فى تاريخ المسلمين
«العلوج» على تخوم المدينة يتوعدون عمر بن الخطاب
أدركوا الكلب فقد قتلنى