حضن من الوطن
يسقط رعاة الإرهاب.. تسقط أكذوبة أن المسلم أخو المسيحى.. أنقذوا أقباط مصر.. تعيش أمريكا راعية حقوق الإنسان..
ورغم أن عدد المتظاهرين أمام البيت الأبيض لم يتعد العشرات، فإن الاستعدادات الضخمة التى سخرت لنقل المظاهرة والتسليط الإعلامى من وكالات الأنباء فرضها على وجدان المتابع وكأنها قضية رأى عام، خاصة أنه لم يكن هناك صوت آخر يرد أو يفند ما يثار عن ظلم واضطهاد اختص به الأقباط، رغم أن الظلم والاضطهاد كان ضحيته الجميع.
وتجمع الجمهور يتفرجون على وطن عارٍ حتى من ورقة توت..
وطن هان على أبنائه فعرضوه فى مزاد (اللى ما يشترى يتفرج).
ووسط عيون ملونة تتفرج فى برود وصمت كانت هناك عينان سمراوان ممتلئتان بالكلام.. وهبتهما شمس الشرق لمحة من بريقها ووهجها.. بملامح مصرية صميمة وغطاء يستر شعرها ويفضح هويتها.
التفت بعينيه لم تخطئهما وكيف لا.. شعر بإحساس غريب.. تجمد فى مكانه.. تراخت يده حاملة ذلك الشعار الغريب (تسقط أكذوبة أن المسلم أخو المسيحى)..انتبه على وخزة خفيفة من زميله تستحثه على ترديد الهتافات خلف كبير الشمامسة.. يدير وجهه إلى الجانب الآخر.. لا يستطيع.. يجذبه مجال مغناطيسى أقوى من كل قناعاته المكتسبة.. من كل ما رسخوه فى وجدانه منذ الرحيل من أرض الوطن.. يبحث فى عينيها عن شىء منه يفتقده.. حنين يناديه وقد تحولت الأيام إلى ذكريات كغيوم سحرية باهتة لأحلام الطفولة والصبا.. اللبس الجديد، العيدية، المراجيح، قداس العيد، الزينة فى الشارع، الطيارات الورق وخناقات البلى مع الرفاق.
ووسط صخب المظاهرة القاسية تحاول أن تناديه.. يخونها صوتها.. تتحرك تجاهه تمنعها ابنتها الشابة فى مثل عمره:
- مش هو يا ماما ده بس شبهه..
- لأ هو أنا عارفاه حد يتوه عن ضناه.. ده أخوكى مينا يا فاطمة.
لتنظر زميلة فاطمة فى البعثة للحصول على الدكتوراه فى اندهاش لهذه الأخوة العجيبة، فتفسر لها فاطمة..
مينا ابن أبلة تريز جارتنا فى شبرا متربيين سوا وماما كانت بترضعه معايا لما كانت أبلة تريز عيانة قبل وفاتها الله يرحمها.. كنا أكتر من أهل.
تحركت الأم الملهوفة بلا إرادة تجاه ابنها.
- يا أمى استنى.. إحنا مكناش عايزين نقولك.. مينا مات.. ده مش مينا.. ليذوب صوتها مع الضجيج.
ووسط ذهول الجميع تقتحم الصفوف ذات الملامح المصرية السمراء.. تتحدى الحركة المنظمة لأقدام عنيدة تدفعها.. تكاد تسقط يمد لها يدا.. تقف ويقف كل شىء آخر.. تتراخى يداه.. تفلت اللفة من بين أصابعه.. وبعيون تفيض بدمع العتاب والحب تفتح له ذراعا.
تتحرك قدماه دون إرادة منه.. تدوس اللافتة لتغوص فى الجليد.. يلقى بنفسه فى حضن يشعر بأنه يعرفه.. يشتاق إليه.
تخرج فاطمة قصاصة جريدة كانت تخفيها عن أمها لخبر وفاة شاب مصرى الأصل فى حادثة سيارة.. تتأملها قليلا.. ثم إلى أمها وذلك الملقى فى حضنها.. لترمى بها فى سلة المهملات القريبة.
يتحرك الموكب.. يذهب كل لحياته ودواماتها وصراعاتها.. ولا تبقى سوى آثار أقدام كثيرة.. ولافتة اختفت وتلاشت منها بعض الكلمات ولكنك تستطيع أن تقرأ بوضوح مما تبقى: (.. أن المسلم أخو المسيحى) مع حبى لكل مصرى.
amanyhola@yahoo. com