بالفيديو| ليلة في "رابعة العدوية".. الاستعداد وبناء التحصينات انتظارًا لساعة الصفر
بمجرد أن تطأ قدمك محيط الاعتصام، الذي تحول إلى ثكنة عسكرية، يقودك المسير إلى شارع الطيران، أسهل الطرق المؤدية إليه، والذي كان يعد من أرقى المناطق في مصر، وتبدل بظلام دامس، ورمال وكسرات الطوب على جانبيه، وبالمرور إلى جوار وزارة الدفاع، تجد أنصار الرئيس السابق خطوا على أسوارها عبارات مناهضة للجيش، وإلى جوارها يقف عدد من الجنود مدججين بالسلاح خلف الأسلاك الشائكة لتأمين المبنى العسكري، وكلما مر ملتحٍ إلى جوارهم، يرمقونه بنظرات ترقب وتوجس دون أن ينطق أحدهم بأي بكلمة.
يظهر سور من أجولة الرمال تستره لافتات وصورة كبيرة للرئيس السابق، وإلى جوارها صورة الفريق عبد الفتاح السيسي، وقد شوّهت بالدماء، إضافة إلى عدد من الصور الصغير لضحايا اشتباكات "المنصة"، و"الحرس الجمهوري". وعند دخول مقر اعتصام أنصار الرئيس السابق مرسي، الذي بدأ منذ نحو 35 يومًا، يقابلك شابان يحملان العصي، وعلى وجهيهما ابتسامة، يستأذنك في التفتيش، ويهمس في أذنك بين الحين والآخر باعتذار، ويقول: "معلش ده كله عشانك وعشاني.. ربنا معانا".[FirstQuote]
تشعر وأنت في الاعتصام، وكأنك في إحدى مدن الصفيح العشوائية أو أحد الأحياء الفقيرة في مصر، حيث يقسم جغرافيا وفق القادمين من أنحاء الجمهورية، فهنا دائرة أهالي المنوفية وإلى جوارها أهالي الجيزة وبالقرب منها يقع مقر أهل الإسكندرية، وغيرهم على الترتيب، وتحدد كل منطقة بالحبال للفصل، حتى لا يندس بينهم غريب.
أجواء التأهب والاستعداد، بعد قرار مجلس الوزراء تفويض وزير الداخلية للتعامل مع الاعتصام بالطرق القانونية.[SecondImage]
في إحدى الخيام، يجلس شابان يفردان أقدامهما ويظهر عليهما الإرهاق بعد الحراسة على مدار اليوم، ولم يخلعا عنهما ملابس التأمين الخاصة بالبوابات، سواء الخوذة أو واقي الصدر، ويمسكان بأيديهما العصي، ويؤكدان أنهما من الممكن أن يكونا اليوم من الشهداء، حسب اعتقادهم، ليلحقا بزميلهما الذي كان يجاورهما في الخيمة، قبل اشتباكات المنصة.
الحديث إلى وسائل الإعلام يسبب للجميع ريبة، والإعلان عن هويتك كصحفي يشعرهم بالتوجس، فالإعلام أحد أعداء الجهاد المقدس الذي جاؤوا من أجله.. "أنا صحفي" جملة يستقبلها بعضهم بالدوران حولك مع النظر الذي لا يخلو من اتهام، وتجعل البعض الآخر يصفك قائلاً: "سحرة فرعون"، الحديث مع الصحافة يكون بشكل مقتضب، وممنوع التصوير، ويرنو إليك الجميع بترقب وخوف، وتتسارع الألسنة بسؤال: "تبع إيه يا أفندم".
في نهاية شارع الطيران وبالقرب من المنصة تجد لافتة كبرى تدل على "المستشفى الميداني"، وتعج بالوافدين عليها من المتطوعين الذين يساعدون في توسيع مساحة المستشفى لتسع الأدوية الواردة إليها، وأيضًا لعدد الإصابات المتوقع في حالة الهجوم. الأطباء والمسعفون من المعتصمين يتحركون في كل مكان، ويجردون الأدوية لمعرفة ما سيحتاجون إليه.
بلحيته الكثة يقف أحدهم في مقدمة المستشفى يستقبل حالات في حاجة إلى أدوية الصداع جراء وجود أصحابها بالقرب من سماعات المنصة، ويتابع بعض المصابين في الاشتباكات الأخيرة رفضوا الدخول في مستشفى خارج الاعتصام. الدكتور "علي" الذي ما زال يكمل دراسة للطب بكلية قصر العيني، يقول: "إحنا يوميًا عندنا طوارئ، ننتظر بشكل دائم عودة المسيرات التي تطوف شوارع مدينة نصر، ودائما في حالة استعداد".[ThirdQuote]
"علي" تخلى عن ابتسامته، بعد همس أحدهم في أذنه بعدد من الكلمات، حين بدأ الحديث إلى "الوطن"، بدا محددًا في كلماته، ويؤكد أن اشتباكات المنصة أسفرت عن مصابين وقتلى لم يستوعبها المستشفى الميداني، فقرروا إنشاء أكثر من مستشفى داخل الاعتصام ليستطيعوا استيعاب كل المصابين، ويكمل: "الاستعداد اليوم لا يرتبط بقرار الحكومة بتفويض وزير الداخلية في التعامل مع الاعتصام، ولو تراجعت الحكومة عن قرارها لن نوقف حالة الطوارئ"، لأنه لا ثقته في الداخلية بعد ما شهدوه من عنف غير متوقع سقط بسببه مئات الضحايا ما بين قتلى ومصابين.
يرفض "علي" صيغة أحد الأسئلة، يتعلق بمدى قدرة المستشفى الميداني على استيعاب كم الإصابات الوافدة عليه خلال اشتباكات "المنصة"، ويعتبره اتهامًا وتحمل مسؤولية وفاة عدد من المعتصمين، ويقول: "لا يمكن لأي مستشفى استيعاب ما قد يسقط من قتلى ومصابين جراء هجوم الداخلية، مهما كان استعداد المستشفى فما بالك بمستشفى ميداني"، ويشير إلى أن عددًا من أهالي مدينة نصر يمد الاعتصام بالأدوية "النادرة"، وهو ما يسد حاجة المستشفى إلى الأدوية الناقصة التي كان يعاني من عدم توافرها خلال الاشتباكات الأخيرة.
يعلو صوت المنصة الرئيسية لتعلن عن حاجة المستشفى الميداني إلى أطباء متخصصين في العظام والباطنة والتخدير وعدد من التخصصات، ولكن لا يجيب أحد، ويتكرر النداء مرات ومرات، وعقب ذلك تلقت الميكروفون إحدى أمهات الشهداء ترفع صورة نجلها وتشير إليه، محمّلة "السيسي" مسؤولية وفاته، ومعلنه أنه جاء من أجل الإسلام واستشهد في سبيله، ومن خلفها يتدلى فانوس رمضان تغطيه صورة للرئيس السابق من جانب ورئيس الوزراء التركي "أردوجان" من الجانب الآخر، وتوجد صورة القيادي الإخواني صفوت حجازي "نائب رئيس الجمهورية" وفقًا لتفويض الرئيس السابق، على حسب إعلان المنصة الرئيسية، الذي يتعامل معها المعتصمون بالطاعة العمياء.
تنتشر شاشات العرض بجوار الخيام تبث قناة "الجزيرة"، ويلتف حول الشاشات العديد من المعتصمين، يقف أحدهم بجلبابه يتابع ما تبثه القناة القطرية، ويعاد بيان وزيرة الإعلام درية شرف الدين، والتي تردد: "قررنا تفويض وزير الداخلية في اتخاذ الإجراءات اللازمة ضد قطع الطرق وترويع المواطنين"، يمتعض وينظر إلى صديقه ولسان حاله يقول "هل يعودان معًا إلى بلدتهما أم يعود وحيدا؟".
على بعد أمتار يقف آخر (ممسكًا بكاميرا) إلى جانب صور للشهيد أحمد عاصم، الصحفي الذي سقط خلال أحداث "الحرس الجمهوري"، وعلى الجانب الآخر "تي شيرت" لأحد شهداء نفس الأحداث، مكتوب عليه "ترك لكم قميصه عشان ترجّعوا رئيسه".
"مؤمن" أحد الشباب المشاركين في توثيق الأحداث، يستعد لاشتباكات مرتقبة مع الشرطة بعد إعلان الاتجاه إلى فض الاعتصام، ويقف بجانب صور الشهداء، الذين يتمنى أن تضاف صورته إليهم دفاعًا عن "الشرعية" -حسب اعتقاده.
"مؤمن" وعدد من مجموعة "شباب ضد الانقلاب"، أنشأوا معرضًا تحت عنوان "توثيق ضحايا الميادين المصرية"، تُعرض بداخله صور ضحايا أحداث ما بعد عزل الرئيس السابق محمد مرسي، وقال: "الغرض من المعرض هو التعريف بالشهداء الذين سقطوا بعد الانقلاب على الشرعية"، ويشير إلى أن عدد المصابين في حرب غزة 2008، 5000 مصاب خلال تسعة أيام، ولكن على أيدي قناصة الداخلية ومن أسماهم بـ"بلطجية السيسي" سقط أكثر من 5000 مصاب في تسع ساعات.
يقسّم "مؤمن" ورفاقه المعرض وفقًا لتواريخ الأحداث منذ عزل الرئيس السابق مرسي، وترتب صور الضحايا على الحائط وإلى جانب كل منها بطاقة تعارف، ويشير إلى صورة أحمد عاصم ويتساءل: "هل الإرهابيون يُقتلون ولا يَقتلون"، مشيرًا إلى استهداف الشهداء من جانب قناصة الشرطة، منتقدًا شيخ الأزهر، ووصفه بـ"محلل الانقلاب".[ThirdImage]
يتعالى صوت المنصة مرة أخرى، معلنًا عن قدوم أحد الأشخاص يدعى أنه من سكان مدينة نصر ويؤكد تأييدهم للاعتصام، ويعلن دعم المتظاهرين بكل ما يلزمهم، متحدثًا بلسان الأهالي المحيطين بالاعتصام، ويرفض كل ما يُعلن عن رغبة الأهالي في فض الاعتصام.
وإلى جانب اعتصام رابعة العدوية، شيد المعتصمون الحواجز من أجولة الرمال وبلاط أرصفة الشوارع، لمواجهة محاولات فض الاعتصام، وتحديدًا بشارع يوسف عباس، وبجوار نادي الزهور يقف أحمد حسين ينتظر نهاية الشوط الأول من مباراة كرة قدم أقامها عدد من أولاد سكان العمارات المجاورة لـ"رابعة العدوية"، مستغلين فرصة خلو الشارع من حركة المرور.
أحمد حسين الذي انتابه الخوف على أسرته منذ إعلان وزيرة الإعلام اتجاه الحكومة إلى فض الاعتصام، متوقعًا استغلال المعتصمين عماراتهم، وشققهم السكنية للاختباء بها.
"وبال على أهل المنطقة والجميع يكره وجوده".. هكذا يصف "أحمد" شعور أهل منطقة رابعة ومدينة نصر الاعتصام، ويرفض كل من يصعد المنصة ليتحدث باسم الأهالي، مشيرًا إلى منع والدته من الخروج من نافذة الشقة، خوفًا من مشاهدة أحد المعتصمين وهو يتبول في حديقة المنزل التي باتت "مرحاضًا" لأنصار الرئيس السابق، قبل بناء عدد من الحمامات بجانب الحديقة.
توقف اللاعبون وبدأوا في الحديث عن جيرانهم الجدد من المعتصمين الذين أحيانًا لا يتركونهم يخلدون إلى النوم سواء من أصوات المنصة، أو من أصوات إطلاق الرصاص والخرطوش في ساعات الاشتباكات التي تستمر حتى الصباح، ويقف "خالد" يجفف عرقه ويقول: "اقتحام الميدان من جانب الشرطة قد يضطر المعتصمين إلى اللجوء إلى العمارات السكنية خوفًا من بطشهم"، ويصف خوف الأمهات على وجودهم في الشارع وقت فض الاعتصام، وهو ما قد يلحق الضرر بأحد أبنائها".
وأمام أحد البنايات المطلة على الاعتصام يقول "محمد": "لا عارفين نطلع ولا نروح ولا نيجي، كل المنافذ مغلقة بأسوار من الطوب والبلاط المخلوع من الأرصفة، فأُغلق صلاح سالم وطريق النصر، وأضطر يوميًا إلى السير ما يقرب من 5 كيلومترات للوصول إلى أقرب طريق".
"محمد" صاحب العشرين عاما والذي يعمل في السياحة، يؤكد أن "حرمة المكان والمنازل تنتهك، ونخشى على نسائنا ولا نشعر بالحرية، واختفت كل مظاهر رمضان"، ويتمنى "مخاطبة الشرطة للمعتصمين لفض الاعتصام دون إراقة الدماء"، متخوفًا من الضرر الذي قد يلحق بهم جراء إراقة المزيد من الدماء، قائلاً: "ناس كتير من السكان هتروح في الرجلين".
ويستمر العمل داخل الاعتصام وسط تأهب من الجميع، فيظهر عم "أحمد" بجانب أحد مداخل الاعتصام ممسكًا بطرف جلبابه الفضفاض، وينتظر لملء أحد الأجولة الرملية، ويتقدم في خطوات ثابتة لأداء دوره في بناء الدشم التي تحيط بالاعتصام.[SecondQuote]
تتسارع وتيرة البناء، الكل يتقدم إلى أبواب الاعتصام للمشاركة في إفراغ الرمال من العربات وملء الأجولة وتكوين الدشم. خطوات متلاحقة قبل أذان الفجر، العمل يتم في ورديات، ويتجهون بالتبادل إلى طاولة قريبة من البوابة التي تغلق طريقة النصر لتناول السحور. يحل مكان عم "أحمد" الرجل ذو الستين خريفًا، شقيقه الذي سبقه في تناول السحور.. الجميع في نظام استعدادًا لـ"ساعة الصفر" كما وصفتها الداخلية للتعامل مع الاعتصام.