"الوطن" في "البقيع الثانية" بالمنيا.. "لازم تدخلها بتوك توك"
إحدى المزارات التراثية في البهنسا
"البهنسا"، هو اسم إحدى القرى التابعة لمركز بني مزار محافظة المنيا، سطَّرها التاريخ بفتوحات وأحداث لم تنعم بها دولة بخلاف مصر أخرى تجعلها تتصدر السياحة الإسلامية ما بعد مكة والمدينة وبيت المقدس، وهو ما ذكره عمرو بن العاص (رضي الله عنه) نقلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس بعد مكة والمدينة والأرض المقدسة أرض مباركة إلا أرض مصر وأكثر البركة في الجانب الغربي".
لعلها تكون البهنسا، هكذا ذكر خيري عبدالجواد في الجزء الثاني من كتابه "القصص الشعبي"، الصادر عام 2010 في بيروت، والذي أفرد له فصلاً كاملاً عن تاريخ البهنسا، التي جاءت تسميتها على اسم أحد أبناء ملوك البهنسا الأوائل وهو الملك بطرس الذي وولدت له بنت سماها بهاء النساء، وكانت تتمتع من الحسن والجمال ما جعل المدينة تسمى باسمها.
تقع البهنسا على أحد ضفاف البحر اليوسفي، الذي عمد سيدنا يوسف عليه السلام لبنائه، وكان القصة بحسب الأثر المذكور في كتاب عبد الجواد: أن السيد يوسف وقع بينه وبين صاحب مصر شيئا بعد فراغ السبع سنين المجدبة، فاجتمع رأيهم على القرعة والقسمة فقسمت أرض مصر فوقع الجانب الغربي ليوسف عليه السلام، وهي أرض البهنسا وكانت فقاراً ورمالاً وتلالاً فأراد أن يجري بها نهراً من النيل، وصار ذلك البحر جارياً من حيث شق سيدنا جبريل عليه السلام، وفدن فيه يوسف الصديق عليه السلام.
وقال تعالى: "وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ"، وجاء في تفسير علي بن أبي طالب أن المراد بالربوة مدينة البهنسا، وذلك بعد أن احتمل يوسف النجار السيدة مريم وابنها المسيح عليه السلام ودخل بهما أرض البنهسا هرباً من القيصر هيدروس الذي أراد قتله.
ولما دخلت مريم بولدها إلى أرض البهنسا، كما ذكر الأثر، أتوا إلى مكان البئر المعروفة ورجع يوسف النجار وخلى مريم وليس على البئر ما يعين على جلب الماء، فطلب عيسى عليه السلام الماء ليشرب فبكى من العطش فحزنت أمه فارتفع ماء البئر حتى شرب منه.
ذكر أبي جعفر الطبري في كتابه التاريخي البداية والنهاية أن أرض البهنسا كانت من بين الفتوحات الإسلامية التي أمر بها عمر بن لعاص رضي الله عنه بتجهيز جيش يرأسه خالد بن الوليد رضي الله عنه، ومعه سبعين بدرياً، أي الذين حضروا غزوة بدر، وكان عليها ملك من الروم يدعى البطلوس، واشتد القتال بينهم والحصار للمدينة لفترة امتدت لثلاث سنوات إلى أن تحقق النصر لجيش المسلمين بعد مقتل البلطوس على يد خالد بن الوليد.
تعطرت تربة البهنسا على إثر هذه المعركة بدفن خمس آلاف من صحابة رسول الله، بينهم سليمان بن خالد بن الوليد، ومحمد بن عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق، والحسن الصالح بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهو ما جعل الكثيرين يطلقون عليها "البقيع الثانية"، بعد "البقيع الأولى" بالحرم المكي، الذي يضم رفات صحابة رسول الله وآل البيت.
ولما تولى عبد الله بن طاهر الخراساني حكم مصر عام 826 ميلادية بعد استسلام العباسيين أتى إلى البهنسا فلما قرب من الجبانة ترجل عن جواده، وترجل كل من معه وكان الوالي عليها آنذاك عبد الله بن الحسين الجعفري خرج إلى لقائه ماشياً وسلم عليه فلما وصل إلى الجبانة قال: "السلام عليكم يا أحياء الدارين وخير الفريقين"، ثم التفت إلى الصحابة وقال إن هذه الجبانة ينزل عليها كل يوم مائة رحمة، وإنها تزف بأهلها إلى الجنة، ومن زارها تتساقط عنه ذنوبه كما تتساقط الأوراق عن الأشجار في يوم الريح العاصف، وشوهد عبد الله كل يوم يخرج حافياً يزور الجبانة حتى مات عام 844 عن عمر بلغ 48 عامًا.
"الكوبري هيقع يا أبلة عايزة تروحي البهنسا لازم تاخدي توك توك عشان الكوبري هيقع وممنوع أي عربية تطلع إلا التكاتك"، بهذه الكلمات بدأت رحلة "الوطن" لزيارة جبانة الشهداء بقرية البهنسا، فبعد قرابة الثلاث ساعات هي رحلة القطار المكيف من القاهرة إلى المنيا، وبالنزول لمحطة مطاي، لا يبرز أمام الرائي أي وسيلة يمكنها أن تساهم في الانتقال بين القرى والمراكز المختلفة بالمحافظة سوى الميكروباص، وغزو التكاتك.
قضت "الوطن" ما يقرب من الساعتين إضافيتين للتمكن من الوصول إلى جبانة البهنسا، بعد الانتقال من مطاي إلى بني مزار عن طريق الميكروباص، ومن خلال توك توك تنتقل إلى موقف الصندفة، ومنه تستقل ميكروباص آخر للذهاب لمنطقة الصدفين، وهنا تصل للمرحلة الأخيرة والإلزامية استقلال توك توك ليعبر كوبري البحر اليوسفي، بعد إغلاقه لأنه آيل للسقوط.
وبداخل شوارع قرى البهنسا، التي لم تشهد بعد اختراع رصف الشوارع رغم أنها تعيش في رحاب القرن الواحد والعشرين، بدأ سواق "التوك توك" في التوقف قبل أن يعبر كوبري البحر اليوسفي قائلاً: "معلش يا أبلة لازم أحيل العفشة بتاعة العجلة عشان أعرف أعدي بين الحجرين اللي قافلين الكوبري"، هكذا ترجمت المحافظة قرار غلق الكوبري لمنع مرور السيارات عليه بوضع حجرين في بداية ونهاية الكوبري، يمكن أن يعبر من خلالهم فقط العربات الصغيرة التي تدعى توك توك.
أولى المشاهد التي تلاحظها خلال العبور البحر اليوسفي، مجموعة من الشباب يتساقطون بداخله في محاولة للهروب من حرارة الجو، لتتلاطم أجسادهم بالمخلفات التي يضج بها النهر الذي يقدسه التاريخ بأسطر من نور، وبمجرد عبور التوك توك الحجرين في نهاية الكوبري تبدأ مشاهد مولد سيدي البهنسا، مراجيح عالية، سيدات على جانبي الطريق يبيعن الفول السوداني في أوعية نحاسية الطشت، وعربات نصف نقل لتساعد زور الجبانة على الانتقال من وإلى القرى المجاورة لها، بخاصة يوم الجمعة الذي يتزاحم فيه الناس لزيارة الجبانة والحصول على البركة كما يدعي البعض.
بمجرد عبور بوابة صغيرة مفتوحة على مصراعيها تجد لافتة أهلكها الغبار مكتوب عليها "جبانة الشهداء" في البهنسا، يقع على يمينها مسجد علي الجمام، هو الأسعد أبو البركات عبدالقوي بن الجليس بن عبدالعزيز والشهير بـ"علي الجمام" قاضي قضاة ولاية البهنسا وإمام المالكية في عصره، وكان يروي السيرة عن ابن رفاعة، ومات عن عمر ناهز 85 عامًا.
وبجواره مقام صغير عليه يافطة قاضي قضاة البهنسا، بعدها تتعثر في مجموعات تفترش الأرض لتبدأ في تناول الأطعمة داخل الجبانة، ويلهو حولها الأطفال من كل جانب.
تنشيط السياحة في مدينة البهنسا، هذه اللفتة تكاد تقرأها على غرفة غيبها التراب المتراكم عليها، وبالاقتراب من بابها في محاولة للتعرف عمن يجلس بداخلها تجدها فارغة تماماً إلا من بعض الأشخاص التي تشير إلى أن هناك أشخاصا جلسوا هنا ولو لدقائق، مثل كراسي مستلزمات كتابة مبعثرة بشكل غير منظم في أنحاء الغرفة التي لا تتجاوز مترين، وبسؤال أحد الأشخاص الموجودين أمام الغرفة عن وجود أي من مسؤولي تنشيط السياحة رد مبتسماً: "لأ طبعاااا".
"أين جبانة الشهداء.. أين أضرحة الصحابة؟"، كان هذا التساؤل الذي أجاب عنه أحد المواطنين قائلاً: "هناك بس إوعي تخشي جوه لوحدك بحذرك أهو"، غير عابئ بأن الشمس ما زالت في منتصف رحلتها اليومية وبأن هناك جمعا من الزائرين يحيط بالجبانة إلا أن تحذيراته كانت الأشد.
اخترقت "الوطن" بوابة صغيرة يمكن من خلالها الوقوف في منتصف آلاف الأضرحة محفور عليها أسماء لعائلات تنتمي لمراكز وقرى المنيا، وفي وسط هذه الأضرحة تبرز أمامك قباب عالية ينتشر بها ثغور كبيرة، لتشير إلى أن هنا يقبع صحابة رسول الله سالمين، أولهم ضريح محمد بن عقبة بن نافع رضي الله عنه، يظهر من بعده قبة محمد بن أبي بكر، وضريح محمد بن ذر الغفاري أحد الذين حضروا فتح البهنسا من قبيلة غفار التي تكونت منها فرق جيش المسلمين، وضريح الأمير زياد بن الحارث بن أبي سفيان بن عبد المطلب، لقب بأمير السرية، وأبوه ابن عم الرسول، حمل راية فتح البهنسا من عمرو بن العاص، وغيرها من القباب التي تشير كل منها لآلاف الصحابة الذين استشهدوا على رمال هذه البلدة.
"يالا يا أبلة إلحقي ميكروباص بني مزار قبل ما الدنيا ما تليل وهتبقى صحراء ع الآخر وأنا خايف عليكي والمصحف"، هكذا كان النداء الأخير من سواق التوك توك الذي ظل يردد تحذيرات تشير في مجملها "ولاد الحرام ماخلوش لولاد الحلال حاجة"، وهدأت تحذيراته بمجرد استقلال التوك توك للعودة مرة ثانية، من بلدة يمكن أن يتحسن أحوالها كثيراً إن أراد صانع القرار أن يهتم بآثار إسلامية تتمنى دور مجاورة أن تزخر بالقليل منها، وتحسن دخل مصر من السياحة الذي يعاني منذ عدة سنوات أزمات لا تنتهي، إلا أنها لم تعبأ إلا بوضع الحجرين على الكوبري اللي هيقع.