شبح «الانقسام والإلحاد» يطارد تجديد الأفكار داخل الكنائس.. ويعطل الإصلاح
مينا أسعد
يعرف كل من درس التاريخ الكنسى أن الكنيسة كانت واحدة حتى حدث الانقسام أو الانشقاق الكبير فى منتصف القرن الخامس الميلادى، وتحديداً عام 451م لتظهر الكنيستان الشرقية والغربية بسبب مجمع خلقيدونيا، وأصبحت كنائس الشرق تحت قيادة كنيسة الإسكندرية تُعرَف بالكنائس «الأرثوذكسية»، وكنائس الغرب تحت قيادة كنيسة روما وسميت بالكنائس الكاثوليكية. إلى أن جاء القرن الحادى عشر حيث انفصلت كنائس القسطنطينية واليونانية وشقيقاتها عن الكنيسة اللاتينية وأصبحت هى الأخرى تعرف بالكنيسة الأرثوذكسية، وفى القرن السادس عشر وتحديداً فى عام 1529م، قام مارتن لوثر بثورة ضد الكنيسة الكاثوليكية أطلق عليها ثورة الإصلاح، واعترض فيها على بعض التعاليم، وأطلقوا على أتباعه لقب المحتجين أو البروتستانت، وداخل الكنيسة البروتستانتية حدثت انقسامات كثيرة وخرجت منها طوائف عديدة جداً.
اختلف البطاركة فانشقت الكنيسة.. و«الكاثوليكية والبروتستانتية» انتشرتا بالأفكار
كما يقول المثل الشعبى إن «معظم النار من مستصغر الشرر»، بدأت الانقسامات داخل الكنيسة الواحدة بسبب فكرة اعتبرها البعض إصلاحاً فيما شاهدها آخرون أنها خروج عن الدين، فى وقت اختلط فيه معنى الإصلاح والاستنارة مع الحفاظ على الدين وتجديده، وأمام الفكرة انقسمت الكنيسة إلى فريقين كل فرق كالطود العظيم، ما إن أخذت فيه كل فرق انتشار الأفكار حتى تعددت الطوائف فى المسيحية، وصارت «الفكرة» هى المتهم فى «الانقسام»، حتى ارتاب البعض داخل الكنائس من كل فكرة جديدة، وأخذ يهاجمها قبل أن يعمل عقله فيها مما أدى لتجمد الخطاب الدينى عند بعض الطوائف رغم محاولات الإصلاح فيها، هذا هو حال الكنائس.
فالفكرة والتنوع أديا إلى نزاعات منذ بداية ظهور الكنيسة فى جماعة القدس بسبب دخول تلاميذ عديدين من أصل وثنى فى الكنيسة حتى عقد أول مجمع كنسى وهو «مجمع القدس»، وتسبب هذا المجمع فى لحمة الكنيسة، إلا أن ما فرقها هى مجامع القرن الخامس (أفسس وخلقيدونيا) التى تركت أثراً باقياً فى الكنيسة حتى اليوم، فتفجرت القضايا حول المسائل العقائدية واللاهوتية وتنوعت الأفكار حول قضايا الإيمان كألوهية المسيح وحقيقة التجسد، وما لبث أن حدث انقسام بين كنيستى القسطنطينية وروما فى القرن الحادى عشر وتحديداً عام 1054، وكان ذلك نهايةَ مطافٍ طويلٍ من التباعدِ والتجاهلِ المتبادَل والمتنامى، فقد غدا الشرقِ والغربِ المسيحيان غريبين لبعضها البعض.
وفى القرن السادس عشر، ظهر ما يعرف بحركة الإصلاح الكبير على يد مارتن لوثر الذى قسم الكنيسة الكاثوليكية وظهرت الكنائس البروتستانتية، التى أدَّت بدورها إلى ولادةِ كنائسَ مختلفة، منها الأنجليكانية واللوثرية والكنائسُ المُصلَحة والمشِيخية وغيرها، وفى عام 1664 ظهر فريق من المجتهدين فى تفسير الكتب المقدسة سموا أنفسهم السبتيين بحفظ يوم السبت يوماً مقدساً للرب، عرفوا فيما بعد بـ«الأدفنتست السبتيون» الذين عرفوا سابقاً بـ«الميليريون» نسبة إلى وليم ميلر، مؤسس هذه الطائفة وهو واعظ معمدانى «تابع للبروتستانت» عمل سابقاً كضابط فى الجيش الأمريكى، وبتوالد الأفكار ظهرت فى عام 1831م شهود يهوه على يد تاجر بروتستانتى فى ولاية بنسلفانيا الأمريكية يدعى «تشارلز تاز راسل».
وفى مصر ظلَّت الكنيسةُ بعيدةً عن هذه الحركة، حتى ظهرت الكنيسة الكاثوليكية خلال الحملة الصليبية وتحديداً عام 1219، فيما عرفت مصر البروتستانتية بشكل رسمى فى 1860، أما السبتيون فقد بدأ ظهورهم فى مصر عام 1932، وأخيراً، شهود يهوه، فقد أسسها فى مصر عامل ملهى يونانى اسمه بنايوتى أسبيرولو، وانتشرت تلك الكنائس فى مصر بالأفكار، فأخذ الكاثوليك ينشرون أفكارهم عبر «المدارس والمستشفيات والملاجئ»، وأخذ البروتستانت ينشرون تعاليمهم عبر «الوعظ والترانيم».
دخلت الكنيسة فى البداية فى صدام مع الأفكار رغم أن الأفكار لا تموت، فخسرت الكنيسة عدداً كبيراً من أتباعها، كما خسرت سلامتها ووحدتها، وتطور الأمر للرد على الفكرة بالفكرة والكتاب بالكتاب والحجة بالحجة، ثم بدأت مرحلة لملمة الفرقة وما زالت تسعى نحو الوحدة، الأمر الذى اصطدم مع بعض الأصوليين والسلفيين، الذين مازالوا يتبعون نهج الهجوم وتبادل الاتهامات، بل وصل الأمر لمهاجمة «فكرة» الوحدة بدعوى أنها تعنى التفريط فى الإيمان، مما وقف حجر عثرة فى وجه أى محاولة لتجديد الخطاب الدينى وقبول الآخر.
كما حمل المتشددون «الفكرة» سبب الإلحاد، دون النظر لمسبباته الأخرى التى جعلت فريقاً كبيراً من الأقباط يلحد باعتراف الكنيسة التى خصصت المؤتمرات والندوات لمواجهته.
وقال مينا أسعد، أستاذ اللاهوت الدفاعى بالكنيسة القبطية، لـ«الوطن»، إن البعض يعتبر أن انقسام الكنائس كان سببه أفكاراً وأن الوصول للوحدة يحتاج لتجديد الخطاب الدينى المسيحى، ولكن الحقيقة أن الانشقاقات التى حدثت عبر التاريخ تظهر بوضوح أن الأرثوذكسية هى الأصل، والمستلهمة من التعاليم التى سلمها لنا المسيح شخصياً، وكان سبب أغلب الانشقاقات وخروج الطوائف هو بدع وآراء حاولوا فرضها على الكنيسة القبطية من قبَل أصحاب الآراء المخالفة، فضلاً عن بعض التدخلات السياسية التى أدت إلى الانشقاق.
أما كمال زاخر، مؤسس التيار العلمانى القبطى، فيشير إلى أن الانشقاق بين الكنائس لم يكن مجرد اختلاف عابر بل نتاج عوامل عديدة، منها ما هو لاهوتى ومنها ما هو متعلق بموقع الكنائس على خارطة توزيع القوى فى العالم آنئذ، واختلاف الثقافات، واللغات، وتراجع علوم الترجمة، وربما أيضاً انعكاسات الصراعات السياسية والقومية وقتها، والتطورات التى شهدها العالم وولادة قوى جديدة وأفول قوى قائمة.