مداح النبى: اسمعنى.. وانس الدنيا
يجلس متكئاً على «دف» لا تعرف من منهما يشكو حاله للآخر؛ هو يشكو قلة السميعة والراغبين فى سماع المدائح النبوية، والدف القابع عند قدمى صاحبه يشكو: «ألا ليت الزمان يعود يوما». أنين الدف لا يسمعه سوى «عم عبدالغفار» مداح النبى المتجول فى أرقى وأكثر شوارع القاهرة صخباً، يربت على دفِّه بتلك النقرات الخفيفة ولسان حاله يحاكيه «لا تحزن.. لست وحدك من راحت عليه».
يجلس قليلاً ليرتاح بعد أن هده الترحال: «قاعد ألقُط نفَسى واستنى الرزق». مفارقة عجيبة أن تجد هذا الذى ينتظر رزقه.. يسند ظهره إلى حائط البنك الشهير فى ذلك الحى الراقى. عمامته البيضاء التى غطاها عرق الشقا وجلبابه الفضفاض بلونه الرمادى يجعلانك تظنه ممن يجوبون شوارع الأغنياء بحثاً عن صدقاتهم، لكنه يفاجئك برده حين تمد له يد المساعدة: «أنا ما باشحتش.. أنا بامدح الرسول.. تحب اسمّعك».
«طاب السماعُ وهبّتِ النسماتُ.. ووجدت فى حاناتها السادات.. سَمِعوا بذكرحبيبهم فتهتكوا.. خلعوا العِذارَ ودارت الكاساتُ.. هبّت عليهم نسمة فتمايلوا طربا وزالت عنهم الحسرات.. هطلت مدامعهم على وجناتهم حرقاً وفى أكبادهم جمرات». لا تملك إلا الاستماع حين يبدأ فى غنائه، ارتجافة عينيه ورعشة يده التى تحمل آثار السبعين عاماً لا تجعل نقره على دفه يهتز ولا صوته يغلبه ضعف: «لما بأنشد بانسى الدنيا وهموهها.. كأنى طاير فى السما».
«محمود الليثى اشترى منى أغنية بس زعلت عشان غناها وحش».. لم يعجبه غناء المطرب الشعبى لأغنيته التى ألفها: «حرام أغانى المدح تتغنى كده».. هو لا يغنى المدح فقط.. لكن «لكل حادث حديث».
«رزقنى ربنا بتلات بنات، اللهم لا اعتراض».. يحمل همهن حتى بعد أن تزوجن: «لسه باصرف عليهم لدلوقتى». لا يهنأ بالراحة، فقد اعتاد الشقاء وتعود على مشواره اليومى من قرية أبورجوان بالبدرشين إلى تلك البقعة الراقية التى تعود على مشاركة ساكنيها لصوته ولنقرات دفِّه الحزينة.
«ياااااه.. أنا باحب البلد دى قوى، ولو عايز فلوس كان زمان بقى عندى شقة فى أحسن حتة». يفتح محفظته المهترئة ويطلعك على كارت لصاحب فندق شهير فى المدينة المنورة: «قاللى كلمنى وتعالى انشد هناك واللى هتطلبه هتاخده.. بس أنا زى السمك لو طلعت من الميه أموت».