حكايات التهجير من قلب بيوت السويس.. الفرار من الموت
صورة أرشيفية
تركوا منازلهم على أمل العودة بعد شهور قليلة لكن الشهور امتدت لسنوات وصل بعضها إلى ست وبعضها إلى عشر، بعدما تعرضت مدينتهم «السويس» لهجوم على يد المحتل الإسرائيلى فى العام 1967، وتعرضت أغلب منازلهم للقصف، وبدا استهداف المدنيين أمراً مباحاً للعدو الصهيونى، وهو ما دفع القيادة السياسية وقتها ممثلة فى الرئيس جمال عبدالناصر إلى إصدار أوامره بتهجير أهالى السويس، وإعادة تسكينهم فى مناطق أخرى، بعدما تحولت السويس وغيرها من مدن مأهولة، إلى ساحة للحرب.
رغم حداثة سنه وعمره الذى لم يتجاوز عشر سنوات وقت وقوع نكسة يونيو فإن غريب جلال نصر، طبيب (60 عاماً)، ما زال يتذكر أحداث النكسة، يجلس فى عيادته بحى الأربعين على بعد خطوات من قسم شرطة الأربعين، ليروى ما استقر فى وعيه للأبد، يقول إنه عاصر أحداث النكسة فى السويس، وهى الأحداث التى حفرت فى ذهنه على شكل لوحات متتالية قسمها فى ذهنه إلى ثلاث لوحات كل واحدة تعبر عن واقع ارتبط بعقله ووجدانه، أولاها لوحة ما قبل 1967، عندما كان يحرص «غريب» هو وزملاؤه على إرسال خطابات إلى الرئيس جمال عبدالناصر فى عيد ثورة 23 يوليو وعيد العمال ليرد عليه الرئيس بخطابات تحمل صورة له وموقعة منه، يتذكر «غريب» تفاصيل تلك اللوحة بوجه مبتسم وعين يملؤها الحنين: «كنا عايشين الحلم الناصرى، كان الطقس العام طقساً صاعداً، وكان فيه صناعة مصرية واقتصاد مصرى، كنا بنبعت جوابات لناصر وكان بيرد علينا بصورة له حتى لو هو اللى مكانش بيبعتها، بس كان الموضوع دا يأثر فينا جداً، كل شىء كان ماشى تمام لحد ما صحينا على صوت القنابل والأغانى اتبدلت من (يا جمال يا حبيب الملايين)، إلى أغنية أم كلثوم (جيش العروبة يا بطل الله معك ما أروعك ما أشجعك مأساة فلسطين تدفعك نحو الحدود حولها لآلام بارود)».
«غريب»: كنت بلعب فى الشارع لما شفت الجنود راجعين بملابس مقطعة ومتمسكين بسلاحهم
يصمت الرجل للحظات وتتبدل الابتسامة على وجهه إلى دموع فشلت عيونه فى حبسها، متذكراً اللوحة الثانية التى كانت بالنسبة له لوحة مريرة غلبت عليها أصوات المدافع والقنابل: «النكسة كانت تجربة مريرة، تركنا بيتنا اللى على الكورنيش القديم ودخلنا قعدنا فى البلد عند جدتى هرباً من الغارات، كانت كتيرة وكل ما نطلع من الخندق نلاقى ناس كتير ميتة، لحد يوم 8 يونيو والدى كان عنده محل فى الأربعين، وأنا كنت بلعب قدام المحل فجأة لقينا عساكر مصريين لابسين لبس مقطع ومترّبين والرمل ماليهم ورغم كل ده كانوا متمسكين بسلاحهم، أول ما وصلوا الميدان اترموا على الأرض، والدى فتح لهم المحل عشان ياكلوا، ساعتها مكنتش مدرك اللى بيحصل روّحت البيت لقيت والدتى بتقولى اجرى بسرعة روح لباباك واسأله هو عبدالناصر استقال؟».
هرول الطفل إلى والده حاملاً معه سؤال أمه ليجيب والده: نعم استقال، لم يتقبل عقل الطفل الصغير الإجابة: «مش متخيل يعنى إيه عبدالناصر يستقيل، إحنا لما كنا بنتحدى أصحابنا كنا نقول لهم لو (أبوك عبدالناصر اعمل كذا)، أو لما حد يقول حاجة كبيرة كنا نقوله (هو أنت فاكر نفسك عبدالناصر)، مرة واحدة الناس اتجمعت وبدأوا يتجهوا لبورتوفيق عند المحافظة، لقيتنى ماشى معاهم لحد لما واحد زعّق لى ورجعنى، وأول ما وصلت ميدان الأربعين لقيت غارة، ضرب وصواريخ وصوت مدافع الهاوتزر الألمانى كان شديد، كنا بنسميه أبوجاموس لأن صوته كان شبه صوت الجاموس بالظبط، قعدنا جنب التليفزيون وعرفنا إن الإسرائيليين وصلوا خلاص سيناء واستقروا».
إسرائيل كانت بتضربنا بمدفع هاوتزر.. وكنا بنسميه «أبوجاموس» لأن صوته شبه صوت الجاموسة
بدخول الإسرائيليين إلى سيناء بدأت عمليات تهجير الأهالى، اتجه «غريب» وأسرته للإقامة فى فندق سياحى فى الحسين على أمل ألا يطول الوضع، وهناك التحق الطفل بمدرسة فى العتبة، ثم انتقلوا للإقامة فى فندق فى ميدان العتبة، ومع طول الوقت قرروا الانتقال للعيش فى شقة سكنية بمنطقة الحلمية الجديدة، ومع انتهاء مواردهم المالية فكر الوالد فى موضوع التكليف، أى العمل فى السويس من خلال فتح مطعم للفدائيين والعاملين بمدينة السويس، وبالفعل فتح المطعم ليقتات منه وعائلته، بالإضافة إلى الـ14 جنيهاً الإعاشة الشهرية التى كانت تصرفها الدولة للمهجَّرين.
استمرت الأوضاع حتى عام 1973، يتذكر غريب جيداً: «أبويا رجع من بره يقول لأمى لو معبرناش النهارده مش هنعبر أبداً، وأنا جاى فى الطريق كان فيه عربيات وجيش مصرى ليس له عدد مش ممكن يكون ده تدريب، وبالفعل بعدها بلحظات لقينا الراديو بيذيع بيان بصوت المذيع صبرى سلامة بيتكلم فيه عن وجود مناوشات وإن إسرائيل قصفت منطقة الزعفرانة».
يقول «غريب» بنبرة غلب عليها الحماس: «كان فيه حاجة مش مفهومة لحد البيان الرابع اللى اتقال فيه رداً على انتهاكات العدو واعتدائه علينا فى الزعفرانة: قامت القوات المسلحة المصرية بعبور قناة السويس فى قطاعات عديدة وتم رفع العلم المصرى على القناة، أبويا قعد يقول (الله أكبر) بشكل هيستيرى قُمنا حضنّاه خفنا عليه يحصل له حاجة».
فرحة العائلة السويسية لم تكتمل فبينما كانوا يعدون عدتهم للعودة إلى مدينتهم، فوجئوا بأن العدو حاصر المدينة، ويريد استعادة السويس مرة أخرى لتتحول الفرحة إلى حزن شديد لمدة 100 يوم كانت فترة الحصار الذى فكه فدائيو السويس باستعادتهم السويس وطرد المحتل الإسرائيلى: «بعد استعادة السويس عائلتى رجعت عام 74 وأنا رجعت 77 لأنى كنت وقتها بدرس فى كلية الطب جامعة القاهرة، الأوضاع كانت صعبة أهالينا كانوا متفرقين فى محافظات مصر اللى فى بنى سويف واللى فى إسكندرية لحد ما قدرنا نتجمع ونشوف بعض بعد حرب أكتوبر».
أما محسن خليفة، مدير مديرية الشباب والرياضة السابق بالسويس، فكان فى عمر الـ15 عاماً، عندما رأى قوات الاحتلال على الجانب الآخر من قناة السويس من نافذة بيته المطل على القناة، يستقر على أحد المقاعد فى منزله بالقرب من مبنى محافظة السويس، ويقول: «التليفزيون والراديو كانوا يناقشوا أحداث الحرب من قبل 5 يونيو، شحن إعلامى سيئ، مكانش فيه أى نوع من الصدق والشفافية من قبل القيادة السياسية أو بالأحرى إنهم مكانوش عندهم علم باللى بيحصل، الإذاعة كانت بتقول (ساعات وهنوصل تل أبيب)، لكننا فوجئنا أنا وعائلتى بأن اليهود قدامنا الناحية التانية، بيتنا كان بيطل على الميناء، وبعدها حصلت اشتباكات وضرب صواريخ وقنابل».
رغم مرور 50 عاماً على نكسة يونيو وما تبعها من تهجير الأهالى فإن «خليفة» ما زال يتذكر تفاصيل التهجير وكأنها حدثت بالأمس: «بدأت الهجرة بعد شهرين من النكسة وبعد ما إسرائيل بدأت تستهدف المناطق الآهلة بالسكان، حتى تشكل ضغطاً على القيادة المصرية»، لافتاً إلى أن عائلته أخذت قرار التهجير بعد ضرب المدمرة إيلات من قبل الجانب المصرى، والذى ردت عليه إسرائيل بحرق جميع شركات البترول الموجودة فى السويس، لدرجة أن الأهالى لم يكونوا يفرقون بين الليل والنهار من شدة الحرائق التى استمرت أكتر من يوم، على حد تعبيره.
وعن عمليات التهجير يقول خليفة: «التهجير فى البداية كان غير منظم، الأهالى المقتدرة اعتمدت على نفسها وجهودها الذاتية فى التهجير، والدولة قامت بتوفير مواصلات للأهالى غير المقتدرين، كنا فى البداية فاكرين إن التهجير سوف يكون لمدة شهر أو اتنين بس مكناش عارفين إن الموضوع هيطول وأننا مش هنعرف نرجع إلا بعد 73».
يضيف خليفة: «كل عائلة اعتمدت على علاقاتها الشخصية وكان أخى لديه صديق دراسة من مدينة بنها التابعة لمحافظة القليوبية، تواصل أخى مع صديقه الذى أخبره بتوافر شقة يمكن أن تستقبل أسرتنا المكونة من سبعة أفراد أما الأسر التى لم يكن لديها علاقات وكانت حالتهم المادية صعبة فكانوا يسكنون المدارس والنوادى ومراكز الشباب وكانت الدولة تقدم لهم مساعدات مالية».
ذهب «خليفة» وشقيقه الأكبر إلى مدينة بنها لرؤية الشقة والتعاقد عليها، وبعدها بيوم لحقتهم بقية الأسرة، فى البداية لم تأخذ الأسرة معها منقولات كثيرة لأنهم اعتقدوا أن الحرب ستنتهى قريباً، وسيمكنهم العودة إلى منزلهم سريعاً، إلا أن الوضع طال ليستقروا فى بنها ويعودوا بعد حرب أكتوبر عام 1974: «لما الوقت طال دخلنا مدارس واستمرينا هناك فى بنها وبدأنا نختلط مع المجتمعات الجديدة ومكانش بيغيب عنا لحظة أن الوضع سيئ ولازم نحارب ودا اللى خلى الطلاب يطلعوا فى مظاهرات الطلبة، عمرنا ما نسينا عدونا مين، فكرة إن إسرائيل هى العدو الرئيسى لنا للأسف بقت غايبة عن أغلب الشباب فى الوقت الحالى، يمكن فى الوقت الحالى انضم لأعدائنا أعداء جدد غير إسرائيل، بس إسرائيل هى اللى هتفضل عدونا الأول والأخير».
وعن تواصله مع باقى أفراد عائلته من أعمامه وأخواله: «كل واحد من عيلتى راح محافظة مختلفة كل واحد على حسب علاقاته الموجودة فى كل محافظة، فيه ناس راحت شبين الكوم فى المنوفية وناس نزلت القاهرة والوسيلة الوحيدة للتواصل وقتها كانت التليفون الأرضى ومكانش كل الناس عندها تليفونات فى بيوتها فكان اللى عايز يتصل بحد لازم يروح السنترال ويقف يستنى دوره وبعد كده يطلب حاجة اسمها الترنك ويتواصل مع أهله، أى نعم التواصل كان بطىء بس دى كانت وسيلة الاتصال الوحيدة وقتها».
ورغم أن الحاجّة عدولة كامل أبوشوشة هجرت بيتها فى السويس بعد النكسة فإنها كانت أكثر حظاً من غيرها، فزوجها كان مدير مكتب الأهرام فى السويس، وكان يقضى أغلب وقته فى المكتب لنقل الأحداث أولاً بأول، وهو ما جعلها تتردد على السويس خلال فترة ما بعد النكسة وحرب الاستنزاف لكى يرى الوالد ولديه عمرو وضياء بعدما عجز عن ترك عمله لنقل ما يحدث على أرض السويس.
تسترخى السيدة صاحبة العقود الثمانية داخل مكتبتها التى تملكها فى شارع التحرير بحى السويس، لتقول إنها كانت تعمل معلمة، بمدرسة المعلمات وقت النكسة: «مكناش قادرين نسيب السويس، وكنا مقيمين فيها لحد سنة 68، لدرجة أن تكليفى جاء فى الصعيد لعدم كتابتى رغبة فى المدرسة التى أود الانتقال إليها بعد تركى السويس وقمت بتغييرها إلى شبين الكوم، وكان التواصل من خلال التليفون صعب وقتها بسبب الحرب فكان زوجى يأتى لزيارتنا وفى الطريق ترد إليه أخبار عن وجود هجمات فكان يعود أدراجه مرة أخرى إلى السويس لذلك كان الأولاد يفتقدونه وفى أوقات الإجازات المدرسية كنا نسافر للاطمئنان عليه».
وعن الأوضاع التى عايشتها خلال زياراتها المتكررة إلى السويس تقول عدولة: «الأوضاع كانت صعبة، المياه مقطوعة باستمرار، وكانت تيجى عربيات وولادى ينزلوا يملوا لنا منها المياه وكانت الغارات لا تنقطع لدرجة إن مكتب الأهرام فى السويس كان تحته خندق كبير، وخلال حصار الـ100 يوم كان الناس الموجودة فى السويس بتنزل خندق الأهرام وكان زوجى فارشه كله حصير وكان فيه مكتب وتليفون عشان يبعت الشغل وغرفة لتحميض الصور ويبعتها مع ابننا عمرو عشان يلحق الأوتوبيس والصور توصل للأهرام».
الحاجة عدولة ترى أن السويس من أكبر المدن التى أضيرت ليس فقط بسبب النكسة وتهجير أهلها، ولكن بسبب الحروب التى مرت بها بداية من مقاومة الاحتلال الإنجليزى فى 52 مروراً بالعدوان الثلاثى عام 56، وتحول السويس إلى ساحة لإسقاط الطيران وحتى نكسة 67 والتى قضت على غالبية بيوت أهالى السويس، مستشهدة بمنزلها الذى وقع صاروخ فى أوسطه فدمره، وبيت «حماها» الذى ضربه صاروخ وقام الأهالى بإنزال الجد من الشباك، موضحة أن تلك الأحداث زادت أهالى السويس صلابة: «السويس قاست، عمتى هنا فى الجناين بيتها على القنال، بتقول لى ساعة أحداث الثغرة، لقت اليهود كسروا عليها الباب وقالوا لهم: يلا خدوا اللى عايزينه على العربية وسيبوا البيت، وللأسف خرجت بعد ما خدت شوية حاجات بسيطة زى البوتاجاز والطيور وحمّلتهم هى وجيرانها على العربية الكارو وفضلوا ماشيين على رجليهم لحد الإسماعيلية وهناك اتفرقوا كل واحد راح فى مكان وكل شوية يقفوا فى الطريق يدبحوا طيور ويطبخوا عشان ياكلوا ويقدروا يكملوا مشى، حتى عم ولادى كان لواء شرطة فى الأدبية لما دخل عليه اليهود خسّر الأجهزة الموجودة وتم أسره 40 يوم ولما فكوا حصار السويس رجع تانى».