من الضرب بالخراطيم إلى «الاعتداءات الجنسية».. انتهاكات دُور الأيتام عرض مستمر
آثار تعذيب على جسد أحد الأيتام
وقائع تعذيب وضرب لا ينساها أطفال فى مقتبل الحياة، كل ذنبهم أنهم جاءوا إلى الحياة دون أن يعرفوا لهم أباً أو أماً، فكان مصيرهم الإيداع فى دور الأيتام، ليشهدوا العذاب ألواناً على أيدى مشرفين ومشرفات، كانوا ينادونهم بـ«ماما وبابا» إلا أن تلك الكلمة التى تذيب القلوب المتحجرة، لم تشفع لهم أو تخفف عنهم انتهاكات القائمين على رعايتهم، سنوات طويلة مرت على بعض تلك الوقائع، إلا أنها فى أذهان الأطفال كأنها وقعت بالأمس، فيما يستمر مسلسل التعذيب والتنكيل بهم داخل دور الأيتام.
أطفال «إشراقة».. 3 سنوات من هتك العرض.. وأحدهم: المشرف جرح عضوى الذكرى بسكين لـ«تبولى اللاإرادى»
دار «إشراقة للأيتام»، تقع فى منطقة الربوة بالشيخ زايد، محيطها غير مأهول بالعمارات السكنية، وتتكون من عدة طوابق، وسط حديقة صغيرة، يهرول فيها أطفال لا تتجاوز أعمارهم الـ11عاماً، لا يأبهون لما يحدث حولهم من ضجة كبيرة. حيث تواصلت تحقيقات النيابة الإدارية بحضور ممثلين من وزارة التضامن ومجلس إدارة الدار، حول وقائع تعذيب وهتك عرض 16 طفلاً على مدار السنوات الثلاث الماضية، بعد حملة على صفحات «فيس بوك»، تعرض صوراً لتعذيب الأطفال، وتقارير طبية عن حالاتهم.
اهتم مندوبو وزارة التضامن بمنع وجود أى وسائل إعلامية فى الدار، للحيلولة دون إجراء أى حوارات مع الأطفال، إلا أن «الوطن» تمكنت من مقابلة الأطفال ومعرفة ما تعرضوا له من انتهاكات فى السنوات الثلاث الماضية.
أطفال أجسامهم نحيفة وملابسهم متسخة، يتمكنون من الهروب من وسط الزحام فى حديقة الدار، والخروج لتلة الرمال المواجهة للدار، من أجل اللعب قليلاً فى تلك المنطقة الخطرة، بينما المشرفون ومجلس الدار مشغولون فى إجراءات التحقيق.
«المشرف كان بيعمل فينا حاجات وحشة وقال لنا لو اتكلمتم هاقتلكم»، هذا ما حكاه أحد الأطفال لـ«الوطن»، لافتاً إلى أن حوادث هتك العرض لم تكن فردية، وإنما استمرت على مدار 3 سنوات، فيما توافد على الدار 3 مشرفين، ارتكبوا جميعاً نفس الانتهاكات بحق الأطفال.
قال طفل آخر: «لما كنا نقول عايزين أكل كمان علشان لسه جعانين، كانوا يضربونا بعصاية فيها مسمار»، وأشار إلى آثار الجروح فى ساقيه وذراعه وظهره. فيما قال طفل ثالث يدعى «إبراهيم»، لا يتجاوز عمره 10 سنوات، إن المشرف سبب له قطعاً بسكين حاد فى عضوه الذكرى، عقاباً على تبوله على نفسه، ما أصابه بنزيف حاد، وتم نقله إلى المستشفى.
فتاة سابقة من «بنت مصر»: «انضربنا بعصاية المقشة وفيشة المكواة»
من جانبه، قال رامى الجبالى، «أدمن» صفحة «أطفال مفقودة»، الذى بادر بنشر صور تعذيب الأطفال على مواقع التواصل الاجتماعى، إنه طالَب الأهالى الذين كانوا يتوافدون على الدار بالصدفة، ولاحظوا تعديات مفجعة، أن يقدموا بنفسهم بلاغات إلى وزارة التضامن، وفى البداية كان هؤلاء الأهالى يشعرون بالخوف، لأن الدار تابعة لزوجة رئيس وزراء سابق.
وأضاف: «التقارير الطبية تثبت تعرض أحد الأطفال لقطع فى العضو الذكرى وذلك فى ديسمبر عام 2016، بينما لم تقدم إدارة الدار المشرف للتحقيق رغم ارتكابه هذا التجاوز عن عمد بهدف معاقبة الطفل وترويع الآخرين وإجبارهم على الخضوع له ولممارساته الشاذة جنسياً، بينما أكد أطفال آخرون أن تلك الممارسات كانت موجودة لعامين آخرين من قِبَل مشرفين جاءوا قبل هذا المشرف، وكانوا أشد قسوة وهتكاً لهم».
وفقاً لـ«علاء عبدالعاطى»، مساعد وزير التضامن، رصدت الوزارة بعض التجاوزات فى الدار، لذا «سيجرى اتخاذ الإجراءات اللازمة ضدها، وتم تعيين مفوض ومدير آخر للدار فى الفترة الراهنة». وأضاف: «المشرف اللى قام بالتجاوز، الدار طردته وسيجرى عرضه على النيابة للتحقيق معه».
فى يناير الماضى، وثّقت إحدى الفتيات تجاوزاً صارخاً فى دار أيتام الأورمان بالتجمع الخامس، حيث قامت مشرفة بإجبار طفل على الاستحمام بالماء البارد فى السابعة والنصف صباحاً فى «عز البرد»، عقاباً له على تبوله على نفسه، ولم تتوقف عن الصراخ فيه، وسكب الماء البارد عليه، رغم بكائه واستغاثاته المتواصلة.
قالت أميرة عبداللطيف، 22 سنة، الطالبة الجامعية التى صورت فيديو تعذيب طفل «الأورمان» فى مقطع حقق 2٫5 مليون مشاهدة فى وقت قياسى: «صحيت من النوم الفجر على صوت صراخ الطفل، زى ما ظهر فى الفيديو، أخدت الموبايل وسجلت، والطفل بيقول لها بلاش ميّه ساقعة، مش هعمل كده تانى، ويصرخ فيما تقول له علشان تحرم متعملهاش تانى على نفسك».
أوضحت «أميرة» أنه تصادف إقامتها هى وأسرتها فى العمارة المجاورة تماماً لدار الأورمان بالتجمع الخامس، واعتادت أن تشاهد الأطفال خلال لعبهم فى حديقة الدار، لكنها اعتادت أيضاً أن تشهد انتهاكات لحقوقهم من بعض المشرفات: «شفت أحمد، نفس الطفل اللى عنده 6 سنين قبلها بأسبوع، من شباك أوضتى، بيعيّط ومشرفة تانية بتخوّفه وبتقفل عليه أوضة ضلمة، وموجود فى نفس الدار أطفال من ذوى الاحتياجات الخاصة، منهم طفل اسمه نور، ويصاب بحالات عصبية مفاجئة، ولأن المشرفات لم تكن لديهن خبرة بكيفية التعامل معه، كن يحتجزنه فى غرفة بمفرده، وكنت أراه من خلال شباك غرفتى، وهو يخبط رأسه فى الحيط، حتى يبدأ فى النزيف، وعندما اشتكيت أكثر من مرة لإدارة الدار، نقلوا الأطفال المعاقين إلى الجانب الآخر من الدار، الذى لا يطل عليه بيتنا، حتى لا نسمع صراخهم».
مصورة فيديو «الأورمان»: المشرفات احتجزن طفلاً معاقاً فى غرفة انفرادية وضربن رأسه فى الحائط حتى نزف
وعن تدخل «أميرة» وأسرتها لوقف ما يحدث فى الدار من تجاوزات، قالت: «على مدار الـ4 سنوات الماضية، توجهت إلى مديرة الدار بنفسى أكثر من مرة، وقدمت شكاوى عما أشاهده من تجاوزات، وسماع بكاء وصراخ الأطفال، فكان ردها دائماً أنها ستحاسب المشرفات، وما لاحظته أن المشرفات دائما يتغيرن كل عدة أشهر، يرحلن وتأتى أخريات ويتعاملن بنفس الطريقة مع الأطفال».
أضافت: «تمنيت ألّا تتعرض المشرفة التى قامت بتجاوز ضد الطفل للحبس، رغم ما وثقته بنفسى من تجاوزها ضد طفل فى الدار لا يتجاوز عمره 6 سنوات، لأنها لم تحصل على تعليم جامعى، ولا يتجاوز عمرها 19 سنة، وهى غير مدربة ولا مؤهلة للتعامل مع الأطفال، أنا شفت المشرفة بنفسى، فى تحقيقات النيابة فى أثناء الإدلاء بشهادتى، هى نفسها كانت تقول أنا معملتش حاجة غلط، هو عمل حمّام على نفسه، وأنا عاقبته وحمّيته بمية ساقعة، ومن الواضح إن دى الطريقة اللى هى اتربت بيها».
تابعت: «لا أتمنى أبداً أن يتم إغلاق الدار، أو أن تتعرض مؤسسة الأورمان لأى أضرار، لأنها تقوم على فعل الخير، ولا أرغب فى تشريد الأطفال، أو نقلهم لمؤسسات رعاية، وبالفعل لاحظنا خلال الفترة الأخيرة أن الدار فى التجمع تولت تعيين مشرفات جُدد للتعامل مع الأطفال، ولم نعد نلاحظ أى تجاوزات».
وعن الرقابة المجتمعية أكدت أنه على الناس ألا يكونوا سلبيين: «لو شافت أى تجاوز، تصوره فوراً وتكشفه للناس، لأن الأطفال مايقدروش يدافعوا عن نفسهم، وأنا فوجئت بعدد المشاركين للفيديو الذى نشرته على مواقع التواصل الاجتماعى، رغم إن عدد الأصدقاء فى حسابى لا يتجاوز الـ200، ولكن الفيديو شهد تعاطف كتير من الناس، وأجبر القائمين على الدار على اتخاذ موقف حاسم».
يقول اللواء ممدوح شعبان، المدير العام لدور الأورمان: «المشرفة التى قامت بعمل انتهاك ضد طفل فى الدار، من خلال إجباره على الاستحمام بماء بارد، قمنا بعمل إجراءات فورية ضدها، وذلك من خلال فصلها، وقامت النيابة بدورها فى التحقيق فى تلك الواقعة، التى لم ننكرها، ولكننا أعلنا أنه تجاوز فردى من إحدى المشرفات غير المدربات».
وقال أحمد مصيلحى، رئيس شبكة الدفاع عن الأطفال، إن تجاوزات المشرفين والمشرفات تجاه الأطفال فى دور الرعاية تزداد سوءاً مع الوقت، ومعظم الدور تتكتم عليها، وأحياناً تكتفى بفصل المشرف أو المشرفة حينما يفتضح أمر الانتهاكات وتحدث أصداء لدى الرأى العام.
أضاف «مصيلحى»: «وفى جمعية إنقاذ الطفولة يترك المشرفون 140 طفلاً من أعمار مختلفة يختلطون ببعضهم، وده بينتج عنه إن الأطفال الأكبر سناً يهتكون عرض الأطفال الذكور الأصغر سناً، فهناك إدارات فاسدة أيضاً فى دور الأيتام، ولا تُبقى إلا على المشرفين والمشرفات الذين يتكتمون مع الإدارة على تلك التجاوزات». وتابع: «خلال الأشهر القليلة الماضية، رصدنا اعتداء مشرف دار أيتام فى الشرقية على 8 أطفال جنسياً، كما وصلتنا كثير من الشكاوى تؤكد حدوث تجاوزات جسيمة ضد فتيات يتيمات فى دار الرحمة بالمطرية، من قبل مسئول فى إدارة الدار، كما تعرض أطفال ذكور أعمارهم من 6 سنوات إلى 18 سنة، إلى ضرب جسيم بـ(الشوم) فى دار الصادق بالمطرية، وكل تلك القضايا قدم الأهالى بلاغات بشأنها إلى النيابة».
أكد «مصيلحى» أن آلية التحقيق فى تلك الوقائع وما تضمنته من انتهاكات تهدر حق الأطفال، فإذا قدمت عدة شكاوى تكشف عن وجود اعتداءات على الأطفال، يجرى التحقيق مع الأطفال فى حضور أعضاء مجلس إدارة الدار أو المشرفين أنفسهم، ما يُشعر الأطفال بخوف شديد، ويجعلهم يخشون من الإدلاء بأقوالهم، لأن الموظف القائم بالتحقيق سيغادر المكان فور الانتهاء من سؤالهم فيما يظل بعدها الأطفال فى معاناة أكبر مع القائمين على تلك الدور ومشرفيها.
يرى «مصيلحى» أن إنقاذ أطفال دور الرعاية والأيتام تحول إلى قضية مستحيلة، تثير الكآبة، لأن الأطفال الذين سيخرجون من دور تم إغلاقها بسبب التجاوزات، سيودعون دوراً تابعة لوزارة التضامن، مضيفاً: «لدينا شهادات من أطفال يتحدثون عما يعانونه من تجاوزات جنسية وجسدية أكثر بشاعة وسوءاً من التى كانوا يتعرضون لها فى السابق».
يحكى على حسن، أحد أبناء دار الرواد فى مدينة السادس من أكتوبر، وقائع قاسية شهدها بنفسه على مدار سنوات طويلة عاشها فى الدار، حتى تجاوز عمره 20 عاماً، وكانت تلك التجاوزات وغيرها سبباً فى اتخاذ وزارة التضامن قراراً بإغلاق الدار، خصوصاً بعد اكتشاف تجاوزات مالية.
قال «على»: «الدار كانت تضم نحو 75 طفلاً و15 مشرفاً، حولوا حياتنا إلى جحيم، فقد كانوا يقيمون حفلات تعذيب وضرب للأطفال على أهون الأسباب، فيما يتجاهلون مهام عملهم، واستغلوا الدار كمأوى لهم، يوفر لهم جميع احتياجاتهم من مأكل ومشرب ومبيت، ومرتب المشرف فى عام 2002 كان يصل إلى 3000 جنيه بالدار، وهو مبلغ كبير مقارنة بمتوسط المرتبات، وجميع المشرفين تبنوا سياسة واحدة فى التعامل مع الأطفال، هى التعذيب والضرب، بالتواطؤ مع الإدارة».
أضاف: «كانوا بيحلقوا لينا شعرنا (قرعة) على طول ويجبرونا ننام فى حفرة خاصة بمواسير المياه أمام الدار، وتعرضت للضرب، واضطررت للنوم فى تلك الحفرة 15 يوماً فى أشد الأيام برداً، وتعرضت للحبس الانفرادى، وكانوا يقدمون لنا وقتها وجبة واحدة يومياً، ويجبروننا على نقل الرمال وحملها من تلة مواجهة للدار فى مدينة السادس من أكتوبر ثم إعادتها مكانها مرة أخرى كنوع من التعذيب».
واتهم «على» الدار بإخفاء التبرعات المقدمة للأطفال وكانت فى صورة شقق سكنية ليتمكنوا من الإقامة فيها بعد وصولهم إلى السن القانونية ومغادرتهم للدار: «فيه أطفال اختفت تماماً مانعرفش راحوا فين، ولم يتم فتح تحقيق مع الإدارة عن اختفائهم، أما الواقعة التى كان لها الصدى الأكبر فى الدار فهى تعدى مشرف جنسياً على أحد الأطفال، ورغم إبلاغ الأطفال عن تلك الواقعة، وشهادتهم مع الطفل أمام أعضاء من مجلس إدارة الدار، إلا أن الإجراءات اقتصرت على منع المشرف من الحصول على حوافزه، وسافر لمدة شهرين إلى بلدته فى الصعيد ثم عاد لممارسة عمله مرة أخرى».
وقالت «نورهان»، إحدى فتيات «دار بنت مصر»، إن المشرفات كن يضربنهن بـ«الخراطيم وعصاية المقشة وفيشة المكواة»، مضيفة: «الفتيات كن يستغثن بمديرة الدار دون جدوى أو أى تدخل منها لوقف تلك الانتهاكات المستمرة، حتى تمكنّ من إخبار عصمت الميرغنى صاحبة مؤسسة دور بنت مصر، لكنها لم تنصف الفتيات أيضاً».